loader
 

تفجيرات عمان... "رب اجعل هذا البلد آمنا"

منذ عقود والعاصمة الأردنية عمان تعيش أجواء أمن وسلام في محيط مضطرب. تلك المدينة الوادعة التي تقع على جبال شامخة.. يساعد العيش فيها على صفاء النفس وراحة البال بسبب مناخها الرائع وأهلها المسالمين.. تلك هي مدينتي التي ولدت فيها وعشت فيها معظم سنوات حياتي، والتي شهدت أول ركعة صليتها لله تعالى، وأول آية من القرآن الكريم تعلمتها..

هذه الأجواء الآمنة المطمئنة كانت دوما سببا عندي لحمد الله وشكره على تلك النعمة التي ننعم بها في هذا البلد. وكثيرا ما كنت أكرر قراءة آيات دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام في الركعة الثانية من صلاة العشاء "رب اجعل هذا البلد آمنا".. وكأنني بهذا الدعاء أودّع كل نهار مضى بالأمن والسلام وأستقبل الليل آملا في صباح آمن آخر، كما أدعو لبناتي وابني وهم على أسرَّتهم.. آملا أن يحفظهم الله لي، لأراهم قرة عين في الصباح يلعبون ببراءة ويمرحون... وكأن البلاد عندي ترقد على سرير إلى جانب أولادي وتنام بوداعة كما ينام الطفل.

وعمان تمتاز بأجواء عربية أصيلة مضيافة.. لا يساورها صَلَف أو استكبار أو مظاهر خادعة غالبا... الناس مسالمون.. يحبون الحياة ويحلمون بغد أفضل.. يرحبون بضيوف الأردن دون تشنج أو مشاعر عداء لأحد.. تختزن ذاكرتهم صور ومعاني غياب الأمن والاضطراب والتشرد عن الوطن، لذا فهم أحرص الناس على الأمن الذي كان مطمح آبائهم وأجدادهم. فمن العجيب أن كانت هذه المدينة ملجأ الباحثين عن الأمن والحياة الأفضل من فلسطين ومن بعض الدول العربية المجاورة الأخرى في مراحل متعددة قريبة وبعيدة.. وكذلك من المسلمين الفارين بدينهم منذ بداية القرن الماضي من بلاد القفقاس من شركس وشيشان.. بل ومن أرمينيا المسيحية أيضا.

كنت ولا زلت أقدر نعمة الأمن التي أنعم الله علينا بها في هذه البلاد، وأدعو لبقائها واستمرارها، لعلمي أن الأمن هو القاعدة التي يرتكز عليه نشر الدين ونشر قيمه السامية وسلْمه للعالم أجمع. ولعل الملفت للنظر أن نرى أن دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام، الذي سجله القرآن الكريم، قد ابتدأ بالدعاء لأمن البلاد قبل أن يدعو الله تعالى لتثبيت أسس التوحيد وتجنب الشرك وعبادة الأوثان. ولعل في هذا درسا لكل من يظن أنه يعمل على نشر الدين أو الدفاع عنه أو الدفاع عن المظلومين. فمن ظن أن نشر الفزع والرعب والاضطراب سيكون السبيل إلى نشر الدين فهو مخطئ أشد الخطأ. إن نشر الرعب والفزع والإرهاب لن يؤدي إلا إلى مزيد من الاضطراب ومزيد من التردي. وسيعلو عندها صوت الرصاص والتفجيرات على صوت العقل والمنطق، وستتبدل القلوب التي يجب أن تكون خاشعة لله تعالى، والتي يجب أن تكون مليئة بالرحمة على بني نوع الإنسان إلى قلوب قاسية تنتشي برؤية القتل والدمار ودماء الأبرياء. وإن ساد غياب الأمن، لا سمح الله، فإن صوت الدين الحق سيصبح خافتا مقهورا، وسيصبح المؤمنون مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس. أما الأمن فإنه يفتح الساحة والمجال لكي يرتفع صوت الحق دون خوف أو رعب. فلا حاجة للدين بالبطش ولا بالقوة المادية ولا بالإكراه لكي يرى الناس نصاعته وسمو قيمه وتعاليمه. لذلك فقد كان أعداء الدين دوما هم أعداء الأمن ولم يكن المؤمنون على مدار التاريخ إلا حراسا للأمن وناشرين للسلم. بينما أدرك الأشرار منذ القديم أن الأمن سيكون قاعدة انتشار الدين الذي لا يجدون حيلة لهم للتصدي له بالحجة والبرهان، فعلى كل شخص أن ينظر في أي صف هو يقف.

من أجل ذلك، كان ينبغي على الإرهابيين، من منظرين ومن أتباع أغرتهم تلك الشعارات الفارغة، أن هذه الوسيلة ليست الوسيلة الملائمة لتوحيد الحق جل وعلا، ولا للتغيير، ولا لإعادة الناس إلى دينهم، ولا لتحقيق حقوق الأمة، ولا الدفاع عن مصالحها. فلو كانوا يريدون التوحيد ويريدون محاربة الشرك لكانوا أحرص الناس على الأمن وعملوا على الحفاظ عليه. فتلك هي البيئة الملائمة لنشر الدين ونشر التوحيد والإشارة القرآنية فيها واضحة أشد الوضوح، فليتهم يرون الحكمة من دعاء إبراهيم عليه السلام.

أما الأساليب الدنيئة والوسائل الخبيثة التي يستخدمونها في أعمالهم فمن أعجب العجائب أن يكون هنالك من لديه القدرة على تبريرها بإلباس الحق بالباطل. فالإسلام يأمر بالصدق والأمانة والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ويحث على الالتزام بتلك المبادئ في كل الظروف وفي كل الأحوال. فكيف يمكن تبرير عمل ملطخ بالكذب والغدر والخيانة والظلم والإسراف وقطيعة الرحم والإساءة إلى القريب والبعيد؟!.. هذا فضلا عن أخذ الأبرياء بجريرة غيرهم من الخاطئين المجرمين -في نظر هؤلاء- الذين لا يستطيعون أن يصلوا إليهم؟! وغير ذلك الكثير مما يثير الاشمئزاز من الأعمال الدنيئة والجبانة.

ومما لا شك فيه أن ظاهرة الإرهاب العالمية تستند إلى جوانب كثيرة داخلية وخارجية. ومما لا شك فيه أن المظالم التي حلت بالأمة الإسلامية قد عملت على تفجير هذه الظاهرة ووصولها إلى هذا الحد الخطير، إلا أن جذور هذه الظاهرة كانت ولا تزال مستحكمة في العديد من مدارس الفكر الإسلامي بلا شك أيضا، وما كانت العوامل الخارجية إلا المحفز لبروزها. لذا فإن معالجة هذه الظاهرة لن تكون إلا بتتبع هذه الجذور واقتلاعها بالحجة والبرهان. ولن تكون الإجراءات الأمنية، مهما بلغت من الدقة، وسيلة كافية لمنع حدوث اعتداءاتهم نهائيا. ولن تكون الحرب بالسلاح على الإرهاب كافية للقضاء عليهم بشكل نهائي، بل قد يكون سقوط القتلى في جانب الإرهابيين سببا لاستفحال خطرهم ولمزيد من انتشارهم، لأن الدم يقوي تلك الدعوات التي تعيش على الدم. وليكن معلوما أن العديد من مدارس الفكر الإسلامي، التي تبيح أعمال الإرهاب بشكل جلي أو غير جلي أو مباشر أو غير مباشر، ستبقى تقدم قاعدة وإمدادا للإرهابيين طالما لم تعالج تلك القضايا من جذورها. والأخطر من ذلك أن تستخدم بعض الحكومات في العالم وأجهزتها الخفية هؤلاء الإرهابيين بشكل مباشر أو غير مباشر لتحقيق بعض المآرب السياسية الداخلية والخارجية، وقد ثبت أن استخدامهم لن يكون في مصلحة أحد، وأن مستخدِميهم قد يكونون أول من سيستهدفهم هؤلاء الإرهابيون في المستقبل بعد أن تنتهي فترة استخدامهم!

لذلك فلا بد من الحوار الهادئ الذي لا بد أن يترك أثره على الجميع، بما فيهم هؤلاء الذين أغراهم الفكر الإرهابي والذين هم فينا وبين ظهرانينا. فلو اتسعت رقعة الحوار تحت أجواء الأمن، ولو فتحت أبواب النقاش والجدل بالتي هي أحسن حول كل الأمور الهامة دون تشنج أو تعنت أو تكفير، لقطعنا شوطا كبيرا في التخلص من تلك الظاهرة. ولعل الأمن المميز الذي كان يعيشه الأردن، ولا يزال إن شاء الله، كان مبعثه اتساع ساحة الحوار بشكل مميز عما هو عليه في العالم العربي والإسلامي. إلا أن المحيط العربي والإسلامي متداخل ويتأثر ببعضه البعض، والمسألة تحتاج إلى عمل جاد على مستوى إقليمي وعالمي. فطوفان الإرهاب مؤهل للانتشار وعندها لن تصمد أي جزيرة في ذلك المحيط المضطرب. لذلك فإن ما يحدث يجب أن يكون ناقوسا يدق في كل البلاد العربية والإسلامية لفتح باب الحريات والحوار، ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر وأدب الاختلاف التي هي من صلب التعاليم الإسلامية السمحة.

وأخيرا .. فنسأل الله تعالى أن يكون ما حدث هو سحابة صيف تمر سريعا.. وأن تعود عمان إلى أمنها وهدوئها وتنام وادعة على تلك الجبال الراسية.. وتشهد شتاءً خيرا وربيعا أخضرا وصيفا رائعا وخريفا واعدا.. فعندها نحمد الله مجددا ونشكره على ذلك الأمن والأمان .. وندعو ملء قلوبنا عند سريرها الصغير المفعم بالبراءة.. "رب اجعل هذا البلد آمنا"، هي وسائر بلاد المسلمين وسائر بلاد العالم. اللهم آمين.

 


 

خطب الجمعة الأخيرة