بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم في ظروف كان الكل فيها يقاتل ضد الكل، ولم تكن حالات الحياد معروفة، بل كانت قبائل تغزو بعضها لمجرد أمور هامشية، ولم يكونوا يعرفون للسلم المستمر طعما. وفي صلح الحديبية وافق النبي صلى الله عليه وسلم على أن من ارتد من أهل المدينة فلا بأس لو التحق بأهل مكة، وليس له أن يطالبهم به.
ولما كان المرتد عن الإسلام يلتحق بالقبائل المعتدية في العادة، فكان بديهيا بالنسبة إلى الفقهاء أن ينادوا بقتل كل مرتد، أليس معتديا؟ لذا رأينا عددا من الفقهاء الأحناف ينادي بعدم قتل المرتدة، باعتبارها لا تحارب، بينما يوجب قتل كل رجل مرتد، باعتباره محاربا.
وبعيدا عن سرد الأحداث تاريخيا، يجدر بنا أن نتناول الآيات القرآنية، ففيها الخبر اليقين لمثل هذه المسألة العظيمة: يقول الله تعالى (لا إكراه في الدين)، ويقول أيضا (أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، ويقول عز وجل (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، ويقول أيضا (فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر).
تؤكد هذه الآيات الكريمة أنه لا يجوز أن نجبر أحدا على اعتناق أي عقيدة. ولم تفرق الآيات بين أن يكون هذا المُجبَر نصرانيا أم ملحدا أم مرتدا عن الإسلام، بل هي عامة تمنع أي إكراه في الدين. والآية وإن كانت بصيغة الخبر، لكنها تفيد الطلب.
ولو قلتَ لشخص: عليك أن تعود إلى الإسلام وإلا قتلتك، لكان هذا إكراها بلا خلاف، والآية تمنع الإكراه، لذا فهي تمنع مثل هذا القول وتحرمه.
إن مسألة قتل المرتد مسألة كبيرة وهامة، وفيها إراقة دماء، ولو كان هذا الحكم من عند الله لأنـزل فيه قرآنا، بينما نرى أن القرآن الكريم لم يتحدث عن أي عقوبة للمرتد، رغم أنه تحدث عن الردة كثيرا.
إن الآيات القرآنية التي تحدثت عن المرتد لم تذكر له أي عقوبة دنيوية، بل قصرت ذلك على العقوبة عند الله يوم القيامة. كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل أي إنسان لمجرد ردته. بل وافق على أن يخرج المرتد من المدينة إلى مكة من دون أن يعاقبه، ولو كان قتل المرتد حكما قرآنيا لما وافق النبي صلى الله عليه وسلم على شرط في صلح الحديبية يخالف القرآن.
|
أدلة القائلين بقتل المرتد |
الأَضرار الكثيرة الناجمة عن قتل المرتد غير المحارب |
|
أدلة القائلين بقتل المرتد |
لم يجد القائلون بمنع الحرية الدينية أي آية يستدلون بها، لكنهم وجدوا حديثين ضعيفين وعمموا دلالتهما.
وأولهما ما رواه البخاري من طريق عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس (من بدل دينه فاقتلوه).
ولا ريب أن هذا الحديث لا يراد عمومه، إذ إن المسيحي الذي يبدل دينه فيعتنق الإسلام لا يُقتل بلا خلاف. لذا فالحديث خاص، ومع أن كثيرا من العلماء قد خصصه بالمسلم الذي يبدل دينه، لكننا نخصصه بالذي يترك دينه ويحارب. وقد اعتمدنا في تخصيصنا على الآيات القرآنية التي تنفي أي عقوبة للمرتد لمجرد ردته، وتوجب العقوبة على المعتدي فقط.
ثم إن سند الحديث ليس بالقوي، فعكرمة اتُّهم من قبل عدد من علماء الرجال. لذا لم يرو له مسلم ولا مالك، باعتباره ضعيفًا غير ثقة.
والحديث الثاني (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلا بِإِحْدَى ثلاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ).
ومدار هذا الحديث على الأعمش، وهو مدلس. ثم إن الحديث ينادي بقتل المرتد التارك للجماعة، ومعنى ذلك المحارب للجماعة. لذا فهو نص في ما نقول من أن المرتد المحارب هو الذي يقتل، وليس القتل لمجرد الردة.
وأما الروايات عن قتل مرتد هنا وهناك عن الصحابة، فهؤلاء رُويت قصصهم منـزوعة السياق، ولا ريب أن هؤلاء المرتدين كانوا محاربين فوق ردتهم الأصلية.
أما حرب الردة، فلم تكن حربا على مرتدين عن الإسلام، بل هي مختصة بأولئك الذين رفضوا دفع الزكاة لأبي بكر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسّلم، وتمردوا على القائد الجديد أبي بكر الصديق. لذا فهي حرب على متمردين على النظام السياسي الوليد، ولو تُرك لهم المجال ليتمردوا، فإن الروم والفرس والمترصدين بالمدينة سيغزونها ويستأصلون المسلمين.
نعم، لم يُحارب هؤلاء لتركهم الدين، لأنهم لم يتركوا الإسلام بمجملهم، لذا فقد قال قائلهم:
أطعنا رسول الله اذ كان بيننا ***** فيا لعباد الله ما لأبي بكر؟ أيورثها بكرا اذا مات بعده؟ ***** وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فهؤلاء انشقوا عن قيادة أبي بكر. وهناك من القبائل من أتت غازية المدينة، فكان لا بد من محاربتها دفاعا. وهناك من قام بقتل مسلمين ظلما وعدوانا، مثل مسيلمة الكذاب وقومه. بينما لم يسير له الرسول صلى الله عليه وسلم أي جيش لمجرد ادعائه النبوة وتكذيب الرسول.
وباختصار، فإن الإسلام يمنح الحرية الدينية والفكرية كاملة، وليس فيه أي اضطهاد فكري. وإن حربه على الآخرين سببها عدوانهم وليس كفرهم؛ فالكفر ليس باعثا على قتال أحد، بل لهم حرية مطلقة في الكفر، وحساب الكافر عند الله تعالى فقط على مجرد كفره. |
الأَضرار الكثيرة الناجمة عن قتل المرتد غير المحارب |
لنفرض أن المسألة اجتهادية، وأنه لا نصَّ فيها، مع أنه تبيَّن أن النصوص كثيرة في منع قتل المرتد غير المحارب، لكن لا بدَّ من التأكيد على أن لقتل كل مرتد سلبياتٍ كثيرةً، وهاكم بعضًا منها:
- إن فتح المجال لمن يشك في عقائد هذا الدين للتعبير عنـها بحرية، يجعلنا نناقشه فيها، ونساعده على فهمها، وإزالة ما علق بذهنـه من وساوسَ، وهذا فيه خير عظيم لـه، إذ يُقبل على التزامـه بتوفيق اللّه تعالى.
- إن الضغط على الناس وتضييق حرياتـهم الفكرية يولد ردّة فعل عكسية لديهم، وحيث إنَّنا متيقنون من صحة ديننا، ومن قوة حجتـه، ووضوحها، فعلامَ الخوف؟ فلنفتحِ المجال للنقاش في كليات هذا الدين، وفي جزئياتـه. فأي فكر، وأية عقيدة تستطيع أن تقف في وجه هذا الدين الذي أنـزلـه اللّه تعالى، وحفظه إلى الأبد؟
- لا يخلو القائل بقتل المرتد من مُكَفِّر لـه من المسلمين، ولو قرَّرنا قتل المرتدِّ لكان على العالم الإسلامي أن يحصد نفسه، وأن يجتث بعضُه البعض، أمَّا أهل الأديان الأخرى فلا يتعرض لـهم أحد؛ لأنَّـهم، أصلاً، أهل كتاب.
- إن الحرية الفكرية كفيلة بالقضاء على العقائد المنحرفة، التي لا تنمو إلا في الظلام، وتحت الأرض، ولا تجد مبررًا لوجودها إلا بتقوقعها على ذاتـها، ويوم يُفتح باب المناظرة والنقاش على مصراعيه، فسرعان ما تنـهار، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ)
- إن قتل المرتد غير المحارب يعطي صورة سلبية عن الإسلام أمام العالم، ذلك أن إجبار أتباع الدين على عدم تركه يُفهم منه أن هذا الدين لا يملك مقوِّمات داخلية تحافظ عليه.
- العقيدة مكانـها القلب، ولا يمكن أن يُجبر إنسانٌ على اعتناق عقيدة أو تركها. وهذا يعني أنَّنا لا نريد طابورًا خامسًا بيننا، فليظهر أعداء هذا الدين، ولا فائدة في بقائهم مستترين، بل إنَّ في ذلك ضررًا واضحًا.
- إن قتل المرتد غير المحارب يجعل غير المسلمين يبتعدون كليًا عن الدين، وقد يخطر ببال أحد الكفار أن يدخل الإسلام لِتَعَرُّفِه بعضَ جوانبه العظيمة، لكن سرعان ما يترك التعمق في دراسته لمجرد سماعه بالعقوبة القاسية التي تنتظره إن رأى غير ذلك.
- إن الجمع بين قتل المرتد عن الإسلام ووجوب دعوة غير المسلمين إلى الارتداد عن أديانهم واعتناق الإسلام – يُعتبر مخالفًا للعدالة التي نادى بها القرآن الكريم، ذلك أنه ما دُمنا نطلب من الآخرين أن يدخلوا ديننا؛ لاعتقادنا أنه الحق وأنه من عند الله تعالى، علينا أن نسمح للآخرين بالدعوة إلى دينهم، وأن لا نمنع بالقوة المسلم مِنّا من أن يغير دينه إن اقتنع بما عند الآخرين.
- إن بعض غير المسلمين يمنعون أبناءهم من السماع للحجج الإسلامية الدامغة قائلين لهم: إن المسلمين يمنعون أبناءهم من ترك دينهم، ونحن كذلك نمنعكم من ترك دينكم، بل من مجرد السماع للمسلمين، وعلى كل شخص أن يبقى محافظًا على دينه. ولا شك أن في هذا خسارة للإسلام؛ لأنه الدين الحق المتفق مع الفطرة والعقل، حيث يعتنقه كل من يدرسه بإنصاف وموضوعية وإخلاص ونية صافية. وفي هذا انتصار لغير المسلمين من أصحاب العقائد البالية، التي تجد في هذا الطرح ملاذًا للحفاظ على أفرادها. أما لو فتحنا الأبواب على مصاريعها للنقاش والجدال المستمريْن مع العقائد المنحرفة، فلن تستطيع مواجهتنا، وبالتالي سيتركها أبناؤها بعد حين.
- إن التضحية من أجل فكرة تقويها، وإن بذل الدماء في سبيلها يُدِبُّ فيها الحياة. وإن المسلمين إذا مارسوا عملية قتل من يغير عقيدته فإنهم يعملون على نشر هذه العقيدة الباطلة، وعلى دعمها بأفضل أسلوب، وبأحسن طريقة.
- يتعاطف الناس مع المضطهد والمظلوم، وبعملية قتل المرتد ننشئ عالَمًا متعاطفًا مع الكَفَرَة.
- يمكن استغلال هذا الحكم لقتل أي إنسان أبدى معارضة للنظام الحاكم، باتهامه أنه ناقض قطعيًّا من الدين لتبرير قتله. وماأسهل الاتّهام! وهذا باب شر كبير.
- قتل المرتد يتسبب في خوف الناس من التعبير عن آرائهم وشكوكهم، وبالتالي لن يتسنى للعلماء إزالة ما علق بأذهان المسلمين من شبهات، وقد تتراكم هذه الشبهات، وتعمل عملها في النفوس الضعيفة حتى تؤدي بها إلى الكفر.
- إن هذا الحكم سيسبب للمسلمين حرجًا كبيرًا في العالم؛ فقد يطلب بعض الناس اللجوء السياسي في الدول الديمقراطية متذرعًا بأن دولته الإسلامية تريد قتله، لأنه يريد التعبير عن بعض آرائه. وستستغل وسائل الإعلام هذا الموضوع، وتظهر للعالم قمع المسلمين واضطهادهم ومنعهم الحرية الفكرية.
- إذا وُجدت تعددية مذهبية داخل الدولة الإسلامية وقررت هذه الدولة قتل المرتد، فإنها ستفتح على نفسها بابًا من الخلافات سببه عدم الاتفاق في تعريف المرتد، فبينما يقصُر بعض العلماء التكفير على الاعتقاد، يضيف آخرون بعض الأعمال، ثم يختلف هؤلاء في تحديد الأعمال التي تخرج من الملة.
أفلا تكفي هذه الأضرار الرهيبة للفقهاء المعاصرين ليتفكروا فيما يجنونه على الأمة من مآسٍ من خلال هجرانهم القرآن العظيم الذي أكد أنه لا إكراه في الدين؟ |