loader
 

الحياة بعد الموت

الحياة بعد الموت هي الفقرة الثانيّة من كتاب "فلسفة تعاليم الاسلام" للإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام, وأصل هذا الكتاب القيم محاضرة من تأليفه ألقاها أحد صحابته حضرة عبد الكريم السيالكوتي رضي الله عنه في مؤتمر للأديان بلاهور الهند بتاريخ 26-28 ديسمبر 1896.

وكان على جميع المتكلمين الممثلين عن ديانات شتى أن يستعينوا بكتبهم المقدسة للإجابة
علي الأسئلة الخمسة التالية:

  • حالات الإنسان الطبعّية, الأخلاقيّة والروحانيّة

  • حالة الإنسان بعد الموت

  • الغاية الحقيقية من الحياة الدنيوية للإنسان, ووسائل تحقيقها

  • تأثير الأعمال على حياة الإنسان في الدنيا والأخرة

  • وسائل العلم.. أي المعرفة الحقيقة


لقد ألف الإمام المهدي هذه المحاضرة بتأييد إلهي خاص, وأعلن أنّ
الله تعالى بشره بالوحي أن محاضرته هذه ستكون الغالبة على جميع المحاضرات والمقالات التي سوف يقدمها ممثلوا الأديان المختلفة.

فقام حضرته بنشر هذا النبأ الإلهي العظيم على نطاق واسع في كل أرجاء الهند... فنشرت إعلانات في الجرائد ووزعت منشورات وألصقت لافتات في كثير من الأماكن العامّة بلاهور حثاً للناس على حضور المؤتمر لسماع محاضرته.

أمّا الصحف والمجلات العالميّة فقد نشرت تعليقاتها القيمة حول هذا الكتاب, نذكر منها مايلي:
  • كتبت جريدة ( برستل تايمز آند ميرور Bristol Times and Mirror):
    لاجرم أن الذي يخاطب أهل أوروبا وأمريكا بهذا الأسلوب ليس إنسانا عاديا.


  • وقالت جريدة ( سبريتشوال جورنال spiritual Jornal ) من بوستن:
    إن هذا الكتاب لبشارة عظيمة للإنسانية


  • وجاء في ( ثيوسوفيكال بك نوتس Theosophical Book Notes ):
    هذا الكتاب يقدم دين محمد بأفضل وأروع صورة


  • وعلقت مجلة (مسلم ريفيو Moslem Review) بقولها:
    سوف يجد القارئ في هذا الكتاب أفكاراً صادقة, وحقائق دقيقة تغذي الروح.


Orange Dot كيف تكون حالة الإنسان بعد الموت؟
Orange Dot حقيقة نعيم الجنة
Orange Dot المعارف القرآنية الثلاث عن عالم المعاد
Orange Dot المعرفة الأولى
Orange Dot ثلاثة أقسام للعلم
Orange Dot العوالم الثلاثة
Orange Dot عالم البرزخ
Orange Dot لا بد للروح من جسم
Orange Dot تجربة ذاتية
Orange Dot عالم البعث
Orange Dot إزالة سوء فهم
Orange Dot المعرفة الثانية
Orange Dot ظل ذو ثلاثة فروع
Orange Dot وصف تمثيلي لنِعَم الجنة
Orange Dot المعرفة الثالثة

كيف تكون حالة الإنسان بعد الموت؟

أقول في جواب هذا السؤال إن حالة الإنسان بعد الموت ليست في الحقيقة حالةً جديدة، بل إن حالة الدنيوية نفسها هي التي تنكشف يومئذ بجلاء أكثر. إن كيفيات العقائد والأعمال - صالحة كانت أم طالحة - تكون كامنةً في باطن الإنسان في هذا العالم، تبعث في كيانه تأثيراً خفياً ناجعاً أو سامّاً؛ وأما في العالم الأخروي فلن يظل الأمر هكذا، بل إن كل هذه الأحوال سوف تنكشف انكشافا واضحا. ونجد مثال ذلك في عالم الرؤيا، فإن الحالة الغالبة على الجسم تتراءى في عالم المنام في صورة مجسّمة. فمثلا كثيراً ما يرى المريض في منامه النار ولهيبها قبيل إصابته بالحمى، ويرى المصاب بالإنفلونزا والزكام والرشح أنه في الماء. وهكذا، فإن حالة المرض التي يدخل فيها الجسم تتمثل كيفياتها في عالم المنام.

حقيقة نعيم الجنة

فبالتدبر في عالم المنام يستطيع كل إنسان أن يدرك أن هذه السنّة جارية أيضا في الآخرة. فكما أن المنام يحدث فينا تغييراً معيناً.. ويرينا الحالة الروحية في صورة مجسمة.. كذلك يحدث في ذلك العالم، فتتمثل يومئذ أعمالُنا ونتائجها في صور محسوسة، ويلوح على وجوهنا بوضوح كلُّ ما نكون قد استصحبناه من هذا العالم في صورة خفيّة. وكما أن النائم يوقن فيما يراه من تمثلات شتى بأنها أمور حقيقية، ولا يتوهم أبداً أنها تمثلات، كذلك يحدث في ذلك العالم، بل الواقع أن الله سوف يظهر قدرته الجديدة يومئذ بواسطة التمثلات.. لأنه تعالى هو القدرة الكاملة. إذن فلو لم نُسمِّ تلك الأمور تمثلاتٍ، بل قلنا إنها خلق جديد تمَّ بقدرته سبحانه وتعالى.. لكان هذا القول هو الأصح والحق والواقع. يقول سبحانه وتعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} (السجدة: 18).. يعني لا تدري أية نفسٍ صالحةٍ النعيمَ الذي أُخفي لها في عالم الآخرة. لقد وصف الله جميع نعم الآخرة بأنها مخفيّ‍ة عنا.. لا مثال لها في النعم الدنيوية. والواضح أن نعم الدنيا غير خفية علينا، فإننا نعرف اللبن والرُّمان والعنب ونأكل منها دوماً. فيتبين من ذلك أن نعم العالم الثاني هي غيرُ ما في هذا العالم، وإنما تشترك مع هذه في الاسم فقط. فمن ظن أن الجنَّة عبارة عن موجودات هذه الدنيا فلم يفهم من القرآن حرفاً.

يقول سيدنا ومولانا ونبينا في شرح الآية المذكورة.. وهو يصف الجنة ونعيمها: "أعدّ الله لعباده الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلب بَشر".. مع أننا نرى نِعم الدنيا بأعيننا، ونسمع عنها بآذاننا، وهي تمر بخواطرنا. فما دام الله ورسوله يصفان نعيم الفردوس بكونه شيئاً غريباً.. فنكون إذن قد انحرفنا عن القرآن انحرافاً كبيراً لو ظننَّا أن في الجنَّة أيضاً لبناً ماديا كهذا الذي يُحلب من البقر والجاموس.. وكأنما يكون فيها قطعان من حيوانات حلوبة! وكأن النحل تكون قد بنت هنالك في الأشجار كثيرا من الخلايا، والملائكة يبحثون عنها ويشتارون منها العسل ويصبونه في الأنهار! هل هناك أية علاقة بين أفكار كهذه وبين ذلك التعليم السامي الذي ينطوي على آيات عديدة تقول إن الدنيا لم تر تلك الأشياءَ أبدا، وأنها تنير الروح وتزيد معرفةً بالله، وأنها أغذية روحانية. هذه الأغذية - وإن كانت قد صُوِّرت لنا بصورة مادية - إلا أن الله قد نبَّه أيضا أن منبعها هو الروح والصدق.

ويجب ألاّ ينخدع أحد بقوله تعالى في القرآن المجيد:
{وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها} (البقرة: 26).. أي بشِّر المؤمنين الذين يقومون بأعمال صالحة، ولا يوجد فيهم ذرة من الفساد.. أنهم ورثة الجنة التي تجري خلالها الأنهار. إنهم كلما ينالون من ثمار تلك الأشجار التي قد نالوا منها في الدنيا أيضا.. يقولون إنها نفس الثمار التي قد أوتيناها من قبل، لأنهم سيجدون هذه الثمار شبيهةً بالثمار الأولى.

فلو ظن أحدٌ أن الثمار الأولى تعني نِعماً مادية من هذه الدنيا فلا شك أن هذا خطأ فاحش.. وأنه مخالف تماما لمفهوم الآية ومغاير لمعناها البديهي. وإنما المراد الإلهي من الآية أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. قد غرسوا بأيديهم جنةً.. أشجارُها الإيمان.. وأنهارُها الأعمال الصالحة، وسيأكلون من ثمار هذه الجنَّة نفسها في الآخرة، وتكون ثمارها يومئذ أبرزَ صورةً وأحلى طعماً. وبما أنهم يكونون قد أكلوا من هذه الثمار من قبل في الدنيا بصورة روحانية، لذلك سوف يعرفون تلك الثمرات في الدار الآخرة، ويقولون: يبدو أنها نفس الثمار التي سبق أن أكلناها، حيث يجدونها مشابهة لغذائهم الأول.

فالآية المذكورة تبين بصراحة أن الذين كانوا في الحياة الدنيا يتغذون بغذاء المحبة الإلهية.. سيُرْزقون هذا الغذاء يوم الآخرة رزقاً مجسماً. وبما أنهم يكونون قد ذاقوا لذة الحب والوداد.. وعرفوا كيفيتها، لذلك تتذكر أرواحهم ذلك الزمن الذي كانوا يناجون فيه حبيبَهم الحقيقي بحب ووَلَه، وكانوا يستمتعون بذكراه، منفردين في الزوايا والخلوات وظلمات الليل. فلا ذكر هنا للأغذية المادية أبدا.

وإن خطر ببال أحد أنه ما دام العارفون قد رُزقوا من هذا الغذاء الروحاني في الدنيا وكانوا يعرفونه.. فكيف يصح وصفُ نعيم الآخرة بأنه ما لم يرَه أحد أو لم يسمع عنه أحد أو ما مرّ بقلب إنسان.. فذلك يستلزم تناقضاً ظاهراً بين الآيتين المذكورتين؟

فالجواب: إنما يتحقق التناقض إذا كان المقصود من كلمات الآية نعيمَ الدنيا، ولكن ليس المراد هنا نعيمَ الدنيا.. فكل ما يتلقاه العارف هنا بطريق العرفان إنما هو في الحقيقة من النعيم الأخروي، الذي يوهب له منه شيء ههنا على سبيل العيِّنة ترغيباً وتشويقاً.

اعلموا أن الإنسان الرباني ليس من هذه الدنيا، ومن أجل ذلك تمقته الدنيا؛ ولكنه من السماء.. فلذلك يُعطى النعمةَ السماوية. الإنسان الدنيوي ينال نعم الدنيا، والإنسان السماوي يظفر بالنعم السماوية. فالحق كل الحق.. أن النعيم السماوي قد أُخفي تماما عن أسماع الدنيا وأبصارها وقلوبها.. ولكن الذي طرأ الموت على حياته الدنيا.. وسُقِي بالطريقة الروحانية تلك الكأسَ التي سوف يُسقاها في الآخرة بصورة جسمانية، سيتذكر شُربه الأول عندما تقدم له نفس الكأس. ومن الحق أيضا أنه سوف يجد أن باصِرة الدنيا وسامعتَها كانتا في غفلة عن ذلك النعيم، ولكن بما أنه كان في الدنيا، وإنْ لم يكن منها، لذلك سوف يشهد أن النعيم الأخروي ليس من نعم الدنيا، ولم تر عينُه في الدنيا مثل هذه النعمة، ولم تطرق سمعه، ولم تخطر على قلبه، وإنما رأى نماذجَ تلك النعمة، ولكنها ما كانت من هذه الدنيا، وإنما كانت بمثابة بشير بالعالم الأخروي، وكانت تمتُّ إلى الآخرة لا إلى الدنيا.

المعارف القرآنية الثلاث عن عالم المعاد

ولنتذكر أيضا كقاعدة أن القرآن المجيد قد جعل للحالات التي سوف نمر بها بعد الموت ثلاث فترات، وهي معارف ثلاث قرآنية عن عالم المعاد.. نفصِّل كل واحدة منها على حدة فيما يلي:

المعرفة الأولى

يقول القرآن الكريم مرة بعد أخرى.. أن عالم الآخرة ليس شيئًا جديدًا.. بل إن جميعَ مظاهره هي آثار هذه الحياة الدنيا وظلالُها كما يقول الله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا} (الإسراء: 14).. أي أننا ربطنا برقبة كلِّ إنسان آثارَ أعماله، وأننا سوف نُظهر له هذه الآثار الخفية يوم القيامة، وسوف نريه إياها في شكل كتاب مفتوح.

وليكن معلوما عن كلمة "الطائر" الواردة في الآية أن معناها الأصلي هو الطير، ثم استُعيرَت لمعنى العمل أيضًا.. ذلك لأن العمل، خيراً كان أو شراً، يطير ويختفي بعد وقوعه كمثل الطير.. وتنعدم مشقته أو لذته بعد قليل، ويخلف في القلب أثَرَه لطيفا أو كثيفا.
يؤكد القرآن المجيد أن كلَّ عمل يترك أثرا خفيّاً في نفس عامله، وأن الله يقابل بعمل منه هذا العملَ، سواء كان خيراً أو شراً، فلا يَدَع ذلك العملَ ليضيع، بل تُرسَم آثارُه على القلب والوجه والعيون والأيدي والأرجل. وهذه الرسوم هي صحيفة الأعمال الخفية التي تنكشف جليًّا في الحياة الثانية.

ويخبر الله سبحانه وتعالى عن أهل الجنَّة في موضع آخر بقوله: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} (الحديد: 13)..أي أن نور إيمانهم الذي يحظون به في شكل خفيٍّ سوف يُرى يوم الآخرة وهو يسعى أمامهم وعلى يمينهم.

وفي موضع آخر يخاطب الله الفجَّارَ يقوله:

(التكاثر)

أي أن كثرة الأهواء المادية والرغبات الدنيوية قد شغلتكم عن ابتغاء الحياة الآخرة، حتى وقعتم في القبور. فإيَّاكم وحُبَّ الدنيا، فسوف تعلمون أنه لا خير في حب الدنيا. وأؤكد لكم أن لا خير في حبها. ولو أنكم علمتم علمَ اليقين لرأيتم الجحيمَ في هذه الدنيا نفسها. ثم إنكم سوف ترونها رؤية اليقين في عالم البرزخ. ثم إنكم يوم حشْر الأجساد تعلمونها حق اليقين.. لا بالمشاهدة فقط، بل بالحال الواقع، إذ تؤاخَذون بشدة، ويغشاكم العذاب كاملاً.

ثلاثة أقسام للعلم

لقد أخبر الله تعالى في هذه الآيات بصراحة أن الحياة الجهنّمية موجودة للفجَّار في هذا العالم نفسه وجوداً خفيا، ولو أنهم فكروا لأبصروا جحيمهم ههنا.

وقد قسَّم الله العلمَ هنا ثلاث درجات: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. ولكي يفهم عامة الناس هذه المراتب العلمية.. أضرب ثلاثة أمثلة: إذا رأى الإنسان دخاناً كثيفاً عن بُعد، وانتقل ذهنه من الدخان المتصاعد إلى النار المشتعلة، واستيقن وجودها هنالك قِياساً على ما يوجد بين الدخان والنار من تلازم تام وعلاقة غير منفَكّة، إذ لا بد أن تكون النار حيث يوجد الدخان.. فمثلُ هذا العلم يسمّى علم اليقين. ثم إذا رأى لهبَ النار سُمّى هذا العلم بالرؤية عينَ اليقين. وإذا دخل بنفسه في النار كان علمه هذا حق اليقين.

فالله تعالى يقول هنا: إنه فيما يتعلق بالجحيم فإن الإنسان يستطيع أن يعلمها علمَ اليقين وهو في هذه الدنيا، ثم إنه سيعلمها عينَ اليقين في عالم البرزخ، ثم يصل نفسُ هذا العلم إلى درجة كاملة هي حق اليقين في عالم حشر الأجساد.

العوالم الثلاثة

وليكن واضحا هنا أن القرآن الحميد يخبرنا بوجود ثلاثة عوالم.
العالم الأول هو الدنيا التي تسمّى دارَ الكسب والنشأة الأولى، حيث يكتسب الإنسانُ الخير أو الشر. صحيح أن للأبرار في عالم البعث مجالاً للرقي، إلا أن ذلك الرقي سيتيسر لهم بمحض فضل الله، ولا دخل فيه لكسب الإنسان أبدا.

عالم البرزخ

والعالم الثاني هو البرزخ. وكلمة "البرزخ" في اللغة العربية تعني أصلاً الحاجز بين الشيئين، وقد سمِّي العالم الثاني بالبرزخ لوقوعه بين النشأة الأولى وبين عالم البعث. وهذه الكلمة تطلق على العالم الوسط منذ القِدم، بل منذ أن خُلقت الدنيا. لذلك فهذه الكلمة بذاتها تتضمن شهادة عظيمة على وجود العالم المتوسط. وقد أثبتنا في كتابنا (مِنَن الرحمن) أن الكلمات العربية هي كلمات الله التي فاضت من فم الله سبحانه وتعالى، وأن العربية هي اللغة الوحيدة في الدنيا التي هي لغة الله القدوس، وأنها أقدم اللغات، ومنبع جميع العلوم، وأم الألسنة كلها، وأنها العرش الأول والعرش الآخِر للوحي الرباني. أما كونها العرشَ الأول للوحي الرباني فلأنها كانت كلامَ الله الذي لم يزل منذ القديم معه تعالى، ثم نزل هذا الكلام في الدنيا، واتخذ أهلها منه لغاتهم. وأما كونُها العرشَ الأخير لوحي الله فلأن كتاب الله الأخير.. القرآن المجيد.. نزل بالعربية.

فالبرزخ كلمة عربية، وهي مركَّبة من "برّ" و "زخّ"، ومعناها أنه قد انسد طريق كسب الأعمال وبات في حالة الخفاء. والحالة البرزخية هي حالة ينحلّ فيها هذا التركيب الإنساني الفاني، ويتم انفصال بين الروح وهذا الجسد. وكما نرى أن الجسم يُلقى في حفرة، كذلك الروح تقع في حالة تشبه الحفرة.. كما تدل على ذلك كلمة "زخ".. لأن الروح وحدها لا تقدر على فعل الخير والشر الذي كانت قادرة عليه من قبل وقتما كانت متصلة بالجسد. والواضح أن صحة الروح تتوقف على صحة البدن، فبإصابة واحدة في جزء معين من أجزاء الدماغ تزول الذاكرة، وبإصابة أخرى في جزء آخر منه تزول القوة الفكرية ويتلاشى الوعي والحواس. ولئن أصيب الدماغ بنوع من التشنج أو الورم، أو حصل به انسداد الدم أو أية مادة أخرى انسداد تاما أو جزئيا.. فإنه يصاب فورا بالإغماء أو الصرع. فإن تجاربنا المتكررة منذ القِدم لتدل على أن روحَنا عاطلة تماما بغير اتصالها بالجسم.

لا بد للروح من جسم

إذن فإنه لزعم باطل تماما أن نقول بأن الروح - مجردةً عن الجسم - ستحظى بالسعادة يوماً ما. يمكن أن نقبل هذا الزعم كخرافة.. إلا أنه لا يؤيده برهان معقول. إننا لا نستطيع أن نتصور مطلقاً كيف تبقى الروح على حالتها الكاملة إذا حُرمت تماماً من علاقات جسمانية.. مع أنها - على ما نعلم عنها - تتعطل عند كل خلل ولو بسيط يطرأ على الجسد. أفلا توضح لنا التجربةُ اليومية أن صحة الجسم ضرورية لصحة الروح؟ عندما يصبح الإنسان شيخا فانيا.. تشيخ روحه أيضا وتهرم.. ويختلس سارقُ الشيخوخة منه بضاعةَ علمه.. كما يقول الله تعالى: {لكيلا يعلم من بعد علم شيئا} (الحج: 6).. أي عندما يصير الإنسان شيخا هرِمًا يبدو - رغم دراسته وقراءته - كأنه صار جاهلا.

لذلك فمشاهدتنا تشكل دليلا قاطعا على أن الروح لا شيء بدون الجسم. ثم إنه لما يهدي الإنسان إلى الحقيقة أيضا أنه لو كانت الروح تستطيع القيام بذاتها مستقلة عن الجسم.. فلماذا ربطها الله - عبثا ودونما سبب - بالجسم الفاني. كما إنه جدير بالاعتبار أن الله خلق البشر لرقي غير محدود، فما دام الإنسان لا يستطيع أن يحرز بغير معونة الجسم رقيًّا في هذه الحياة القصيرة.. فكيف يتصور أنه سيتمكن من إحراز تلك الترقيات التي لا نهاية لها بغير مرافقة الجسم؟

إذن فإن هذه الأدلة كلها تبين - وفقًا للتعليم الإسلامي - أنه لا بدّ للروح من مصاحبة جسم على الدوام لأداء واجباتها حق الأداء. صحيح أن هذا الجسم الفاني يفارق الروح عند الموت.. ولكنها في عالم البرزخ تُعَوَّضُ عنه بجسم آخر.. لتذوق به جزاءَ أعمالها إلى حدِّ ما. ولا يكون ذلك الجسم من نوع هذه الأجسام.. وإنما يتكون من ظلمةٍ أو من نورٍ، بحسب نوعية أعمال الإنسان في هذه الدنيا، وكأن أعمال الإنسان هي التي تقوم مقام الأجسام في ذلك العالم. هكذا جاء في كلام الله مراراً وتكراراً حيث اعتبر بعض هذه الأجسام نورانية وبعضها ظلماتية، تكتسب نورها أو ظلمتها من الأعمال.

إنَّ هذا السر، وإنْ كان في غاية العمق، إلا أنه ليس مما يرفضه العقل. فيمكن للإنسان الكامل أن ينال في نفس هذه الحياة كياناً نورانيًا غيرَ هذا الكيان الجسماني. وفي عالم الكشوف أمثلة كثيرة من هذا القبيل. إنه من الصعب إيضاح هذا الأمر لذي عقل محدود؛ ولكن الذي نال نصيبا من عالم الكشف لن ينظر إلى حقيقةِ تكوُّنِ جسمٍ من الأعمال نظرةَ استبعادٍ وعجبٍ، بل سوف يجد فيه متعة ولذة.

تجربة ذاتية

وملخص القول: إن ذلك الجسم الذي يتكوّن بحسب نوعية أعمال الإنسان.. هو الذي يصير في عالم البرزخ واسطة لمجازاة الصالح والفاجر، وإني لصاحب تجربة في هذا الأمر. لقد حصل لي مراراً - في حالة اليقظة أن لقيتُ بعض الموتى كشفًا، ومنهم بعض الفاسقين والضالين.. فرأيت أن أبدانهم كانت مُسوَدَّة وكأنها خلقت من الدخان. والخلاصة أن لي معرفة شخصية بهذا الطريق. وأقول بكل قوة ووثوق أن كل واحد يُعطى بعد الموت - يقينا كما قال الله - جسما نورانيًا أو ظلماتيًا.

ومن الخطأ أن يحاول الإنسان إثباتَ هذه المعارف الدقيقة للغاية بالعقل المجرد. فيجب أن نعرف أنه كما لا يمكن للعين أن تخبر عن مذاق الأشياء الحلوة، ولا يمكن للسان أن يرى الأشياءَ.. كذلك تماما لا يمكن للعقل وحدة أن يحلَّ عقدةَ تلك العلوم الأخروية.. التي لا تحصَّل إلا بالمكاشفات القدسية. إن الله تعالى قد جعل في هذه الدنيا وسائل مختلفة لمعرفة المجهول، فالتمِسوا كل شيء بوسيلته الخاصة تجدوه.

ومما هو جدير بالذكر أيضا أن الله تعالى قد سمّى في كلامه الفُجَّارَ الغواةَ باسم الموتى، ووصف الأبرار بأنهم أحياء. والسر في ذلك هو أن الذين يموتون غافلين عن الله تعالى.. تكون أسبابُ الحياة بالنسبة لهم من أكلٍ وشرب قد انقطعت عند الموت، ولا يكون لهم نصيب من الغذاء الروحاني، فهم قد ماتوا في الحقيقة، ولا يعودون للحياة إلا ليذوقوا العذاب. وإلى هذا السر أشار الله في قوله: {إنه من يأتي ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا} (طه: 75)، وأما الذين يحبون الله تعالى فهُم لا يموتون بهذا الموت، لأن معهم خبزهم وماءهم.

عالم البعث

ثم بعد البرزخ يأتي زمن يسمّى عالم البعث، تتلقى فيه كلُّ روح جسماً محسوساً بيناً، صالحة كانت تلك الروح أم طالحة. وقد قُدِّر يوم ذلك المحشر للتجليات الربانية الكاملة، التي بفضلها يعرف كلُّ إنسان ربَّه حق العرفان، ويبلغ كلُّ واحد عندئذ الذروةَ من جزائه.

ويجب ألا يستغرب أحد كيف يستطيع الله فِعل ذلك! إنه سبحانه القدرة كلها، ويفعل ما يريد، كما يقول سبحانه:

(يس: 78-84)


أي ألم ير الإنسان أننا خلقناه من قطرة ماء تُلقى في الرحم، ثم صار شخصا كثير الخصومة، وبدأ يتحدث عنا بأنواع الحديث، ونسي كيف خُلق هو، وبدأ يقول: كيف يمكن أن يحيا الإنسان مرة أخرى بعد أن تصير هذه العظام بالية؟ من ذا الذي يملك القدرة على إحيائه؟ قل لهم: سوف يحييه الذي خلقه في المرة الأولى، فهو يعلم كيف يحيي وبأي طريقة يحيي.... إنما أمره أنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له "كُن" فيتكون هذا الشيء إنه منزه عن كل عيب.. ذلك الذي له الملك على كل شيء، والكل سوف يُرجعون إليه.

فالله جل شأنه قد صرح في هذه الآيات أن لا شيء مستحيل عنده، فالذي خلق الإنسان من قطرة حقيرة.. هل يعجز عن بعثه مرة ثانية؟

إزالة سوء فهم

ربما يقول الذين لا يعلمون أنه ما دام ثالث العوالم.. أي عالم البعث.. سوف يأتي بعد زمن طويل.. فصار عالم البرزخ إذن بمثابة سجن يُعتقل فيه الصالح والفاسق طوال تلك المدة.. الأمر الذي يبدو محض عبث.

فالجواب أن مثل هذه الفكرة خطأ تماماً، ومنشؤها الجهل المطلق! إن كتاب الله يذكر مقامين لجزاء البار والفاجر، أحدهما عالم البرزخ الذي يلاقي فيه كلُّ إنسان جزاءه لقاء مخفيًّا.. فإن الأشرار يدخلون معًا بعد الموت في الجحيم، وإن الأخيار كذلك بعد الموت مباشرة ينالون الراحة في الجنَّة. وهناك في القرآن المجيد آيات كثيرة تبين أن كل إنسان يرى بعد الموت مباشرةً جزاءَ أعماله. فمثلا يخبرنا الله عن رجل من أهل الجنة بقوله: {قيل ادخل الجنة} (يس: 27)، ويحكي سبحانه عن رجل آخر من أصحاب النار بقوله: {فرآه في سواء الجحيم} (الصافات: 56).. أي أنه كان لرجل من أصحاب الجنة زميل، فلما ماتا افتقد صاحب الجنة زميله، فكشف الله له عنه فوجده في قعر جهنم.

إذن فعملية الجزاء والعقاب تبدأ فوراً بعد الموت، ويدخل أصحاب النارِ النار.. وأصحاب الجنةِ الجنةَ. ولكن هنالك بعده يوماً آخر.. اقتضت حكمة الله البالغة ان يظهر فيه بتجلٍّ أعظم. إن الله عز وجل خلق الإنسان ليعرفه بخالقيته، ثم إنه سوف يهلكهم أجمعين ليعرفوه بقهاريته، ثم يحييهم حياة كاملة ويحشرهم في ميدان واحد ليعرفوه سبحانه بقدرته الكاملة. هذه هي المعرفة الأولى من المعارف الثلاث المشار إليها سابقاً.

المعرفة الثانية

وأما المعرفة الثانية.. التي ذكرها القرآن الكريم تبيانًا لعالم المعاد.. فهي أن جميع الأمور الروحانية في الحياة الدنيا ستتمثل في عالم المعاد مجسَّمة، سواء أكان عالم المعاد في طور البرزخ أم في طور البعث والنشور. ومما قال الله في هذا الصدد: {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا} (الإسراء: 73).. والمراد أن العماية الروحانية التي يصاب بها أحد في الدنيا.. تتجسم في عالم المعاد محسوسة مشهودة.

كذلك يقول سبحانه وتعالى في آية أخرى:

(الحاقة: 31-33)

أي خذوا هذا الجهنمي، وضعوا الغُلَّ في عنقه، ثم أحرقوه في الجحيم، ثم صفِّدوه في إحدى السلاسل التي طولها سبعون ذراعا.

فالآيات تبين أن عذاب الدنيا الروحاني سوف يتجسد في عالم المعاد. فطوْقُ الشهوات الدنيوية الذي كان قد أخضع رأس الإنسان إلى الأرض سوف يتراءى في صورة غُلٍّ يُطَوِّق العنق؛ وسلاسلُ الشواغل الدنية ستظهر في صورة أصفاد تقيد الأرجل، ولوعات الأماني المادية سوف تُرى يومئذ ناراً ملتهبة ظاهرة.
إن الإنسان الفاسق في الحياة الدنيا ليحمل في داخله جحيماً من الشهوات والأهواء، ويشعر بحرقة هذه الجحيم عند الخيبة والخسران؛ ولذلك فإنه عندما يُقذف بعيدًا عن شهواته الفانية، ويغشاه القنوط الأبدي.. سوف يكشف الله له تلك الحسرات في صورة نار مجَسّمة، كما يقول سبحانه وتعالى: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} (سبأ: 55).. أي سوف يوضع حاجز بينهم وبين شهواتهم، وهذه الحيلولة هي نفسها أصل عذابهم.

وأما قوله تعالى: {ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه} (الحاقة: 33).. فهو إشارة إلى أن الفاسق في أحيان كثيرة يعمَّر سبعين سنة، بل كثيرا ما يُرزق عمرا أطول من ذلك للعيش في هذه الدنيا، بحيث يتاح له - باستثناء أيام الصبا والهرم - سبعون عاما من حياة خالصة صافية، يستطيع أن يقضيها في جدٍّ وعملٍ بحزم، ولكن ذلك الشقي يضيع هذه السنين من حياته الثمينة في الانهماك في مشاغل الدنيا.. ولا يريد أن يتحرر من قيودها. لذلك يقول الله تعالى أن السنين السبعين التي قضاها في قيود الشهوات الدنيوية.. سوف تتمثل يوم المعاد في شكل سلسلة طولها سبعون ذراعاً، كل ذراع بإزاء سَنة من سِني حياته.

ظل ذو ثلاثة فروع

ويجب أن نتذكر هنا أن الله تعالى لا يصبّ من عنده على الإنسان أيَّ مصيبة.. وإنما يعرض عليه ما ارتكب هو نفسُه من السيئات.. وتبيانا لهذه السُّنة نفسها يقول الله في موضع آخر: {انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب * لا ظليل ولا يغني من اللهب} (المرسلات: 31-32).. أي أيها الفجار الغواة امشوا إلى ظل ذي ثلاثة فروع، لا يهييء لكم ظلاًّ ولا يحميكم من الحر.

والمقصود بالفروع الثلاثة هنا هو الأقسام الثلاثة من قوى النفس: وهي القوى السبعية، والقوى البهيمية، والقوى الواهمة. فالذين لا يُعدِّلون هذه القوى، ولا يصبغونها بالصبغة الأخلاقية.. يبرزها الله لهم يوم القيامة وكأنها ثلاثة فروع قائمة بلا ورق.. لا تحمي من الحر، ومن ثم سوف يحترقون منه.

وكذلك يقول الله سبحانه وتعالى في أصحاب الجنة - إظهارًا للسُنَّة الإلهية المذكورة: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} (آل عمران: 107).. أي يومئذ سوف تصبح بعض الوجوه سوداءَ بعضها بيضاءَ نورانية.

ويقول في مكان آخر: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} (محمد: 16).. أي أن مثال الجنة التي ستوهب للمتقين كمثال بستان فيه أنهار من ماءٍ لا يتعفن أبدا، ومن لبنٍ لا يتغير طعمه أبدا، ومن خمرٍ تجلب المتعة واللذة بدون أن تصيب شاربها بالسُّكر، ومن عسلٍ صافٍ للغاية لا كثافة فيه.

وصف تمثيلي لنِعَم الجنة

لقد بيَّن الله هنا بصراحة أن الجنة يمكن أن تفهموها - على سبيل التمثيل - أن فيها أنهارًا لا حد لها من تلك النعم. ففيها أنهارٌ ظاهرة من ماء الحياة الروحاني الذي كان العارف يشربه في الدنيا شرباً روحانيًا؛ وأنهار ظاهرة من اللبن الروحاني الذي كان يتغذى به كالطفل الرضيع في الدنيا غذاء روحانيا؛ وأنهارٌ من خمر المحبة الإلهية التي كان بسببها في نشوة روحانية دائمة في الدنيا.. يراها يومئذ ماثلةً أمامه رأيَ العين؛ وأنهارٌ ظاهرة محسوسة من عسل الحلاوة الإيمانية الذي كان يدخل في فمه بصورة روحانية في الدنيا. وسوف يكتشف كل واحد من أهل الجنة مستوى حالته الروحانية عن طريق أنهاره وبساتينه. وأيضا سوف يَبرز الله تعالى لأهل الجنة من وراء الحجب.

فالخلاصة أنه لن تبقى الحالات الروحانية عندئذ على ما هي عليه اليوم من الخفاء، وسوف تظهر أشكالاً مجسمة.

المعرفة الثالثة

والمعرفة الثالثة هي أن سلسلة الارتقاء في عالم المعاد بدون نهاية، يقول الله تعالى:

(التحريم: 9)


فقوله عن الذين آمنوا أنهم لن ينفكوا يدعون ربهم أن يتم لهم نورهم.. إنما هو إشارة إلى ترقيات غير متناهية، بمعنى أنهم كلما استكملوا درجةً من درجات النور.. تراءت لهم درجةٌ أخرى منه، فيرون كمالهم الحاصل نقصًا بالنسبة إلى الكمال الثاني.. فيلتمسون من الله إحرازَ تلك الدرجة، فإذا أحرزوها.. تراءت لهم درجة ثالثة منه، فيعتبرون الكمالات الأولى ناقصة، ويطمعون في هذه الأخيرة. إن هذا النزوع المستمر للرقي يعبر عنه قولهم: "أتمِمْ".

إذن فهكذا سوف تستمر حلقات من سلسلة غير متناهية من الارتقاء، ولن يصيبهم الانحطاط أبدا، كما أنهم لن يخرَجوا من جنتهم، بل سيقدمون يوما فيوما ولا يتراجعون.

وأما قولهم "واغفرنا" فينشأ عنه سؤال: ما داموا قد دخلوا الجنة.. فهل لم يغفرِ الله لهم؟ وما داموا قد غُفر لهم.. فما الحاجة إلى الاستغفار بعد ذلك؟ فالجواب أن المغفرة معناها في الأصل سَتر الحالات الناقصة غير الملائمة.. وتغطيتها. فالمراد أن أصحاب الجنَّة سيطمعون أن ينالوا الكمال التام، وأن يغرقوا كلّيةً في النور. إنهم باستمرار يجدون حالتهم الأولى ناقصةً عند رؤيتهم الدرجة التالية من الكمال، فيودون تغطية حالتهم الأولى. ثم إذا رأوا درجة الكمال الثالثة تمنّوا تغطية حالتهم الثانية.. أي أن تُستر حالتهم الناقصة تلك وتُخفى. وهكذا سوف يظل أصحاب الجنَّة يتمنون المغفرة غير المتناهية بعد كل مرحلة.

إن كلمة الاستغفار أو الغفران هي نفس الكلمة التي يطعن بها بعض الجاهلين في نبينا (. ولعلكم - أيها المستمعون الكرام - قد أدركتم مما سلف أن الرغبة في الاستغفار إنما هي مفخرة للإنسان. فمن كان مولودًا من بطن امرأة.. ومع ذلك لا يتخذ الاستغفارَ ديْدنًا في كل حال.. فهو دودة وليس إنسانا، وأعمى وليس بصيرا، ونجسٌ غير طيب.

فخلاصة القول إن الجنة والجحيم، بحسب تعليم القرآن الكريم، ليستا شيئًا ماديًّا جديدًا يأتي من الخارج.. وإنما هما في الحقيقة آثار الحياة البشرية وظلالُها. إنه لحق أن كل واحدة منهما ستتمثل عندئذ مجسمة.. ولكنها لا تكون في الحقيقة إلا آثار الحالات الروحانية وأظلالها. إننا لا نؤمن بجنة هي عبارة عن أشجار مغروسة غرسًا ظاهريًّا، ولا نؤمن بجحيم فيها أحجار من كبريت مادي، بل الجنة والجحيم - طبقًا للعقيدة الإسلامية - إنما هما انعكاسات للأعمال التي يعملها الإنسان في الحياة الدنيا.


 

خطب الجمعة الأخيرة