الاعتراض: يقال بأن المسيح الموعود عليه السلام قد اعتبر قصة الخضر في أواخر سورة الكهف قصة ذات أحداث حقيقية حدثت على أرض الواقع، بينما لم يقبل ذلك الخليفة الثاني رضي الله عنه ذلك، واعتبرها كشفا روحانيا وأحداثها رمزية لم تحدث على أرض الواقع. وفسرها تفسيرا مناقضا لتفسير حضرته عليه السلام. وبذلك وقع التناقض بينهما.
ملخص الرد: لم يصرح المسيح الموعود عليه السلام مطلقا أنها قصة حقيقية حدثت على أرض الواقع. فلا تناقض بين ما قاله المسيح الموعود عليه السلام وبين ما قاله الخليفة الثاني رضي الله عنه؛ الذي نفى أن تكون قصة حقيقية، بل كشفا روحانيا، وقدَّم الأدلة على ذلك.
المسألة هي أن المسيح الموعود عليه السلام لم يتناول القصة من باب التفسير، بل استخدم ظاهر القصة للاستدلال على جوانب صحيحة تستنبط منها أثناء طرحه بعض القضايا في كتاباته، بغض النظر عن مدى كونها حقيقية أم كشفا. أما الخليفة الثاني رضي الله عنه فقد تناولها في معرض تفسير الآيات، ولذا تناولها من جوانب عديدة.
فالمسيح الموعود عليه السلام لم يقل إنها قصها حقيقية حدثت على أرض الواقع، والخليفة الثاني رضي الله عنه لم يناقضه.
التفصيل:
الخضر في كلام المسيح الموعود عليه السلام والخلفاء
وردت قصة الخضر مع موسى عليه السلام في القرآن الكريم في أواخر سورة الكهف، وقد سمَّاه القرآن الكريم بالعبد الصالح، ولكن ورد في الحديث الشريف أن هذا العبد الصالح هو الخضر (البخاري، كتاب العلم).
فمن هو هذا الخضر؟ وما حقيقة هذه القصة؟ أهي قصة حقيقة أم كشف روحاني؟ وفي أي سياق ذكرها المسيح الموعود عليه السلام؟
نبدأ أولا بالسؤال الأخير ونقول: لا بد أن يكون واضحا أن المسيح الموعود عليه السلام لم يذكرها في سياق تفسير القرآن الكريم، بل ذكرها للاستدلال على بعض المطالب التي كان يرغب بالتأكيد عليها. أما الخليفة الأول والخليفة الثاني فقد ذكراها في سياق تفسير القرآن الكريم، لذلك قدما جوانب تفسيرية باطنة للقصة لم يتعرَّض لها حضرته عليه السلام في سياق استدلالاته، ولكنها نابعة من تفهيمه وتعليمه لهما، إذ وضع حضرته عليه السلام بنفسه أسس تأويل القرآن الكريم.
أما من المطالب التي كان حضرته عليه السلام يريد تقديمها من ظاهر قصة الخضر، فقد كان بعض الناس في زمن المسيح الموعود عليه السلام ولا يزالون يظنون أن الله سبحانه وتعالى لا يُنـزل الوحي أو الإلهامَ على غير النبي، وأن مَن قال بتلقّي الإلهام من الله فإلهامه غير جدير بالثقة، لأننا لا نستطيع الجزم هل قال الله له ذلك أم لا، فهو أمر ظني بحسب زعمهم. وإيضاحًا لبطلان هذه الفكرة قد قدم حضرته عليه السلام أربعة أمثلة من القرآن الكريم، وهي:
1- نزل الوحيُ على حواريي المسيح عليه السلام، مع أنهم لم يكونوا أنبياء.
2- نزل الوحي على السيدةِ مريم أُمِّ عيسى عليه السلام - ولم تكن من الأنبياء- إذ أُنبئتْ عن ولادة ابنها، وكذلك عن أمور عظيمة في حياته المستقبلية.
3- نزل الوحي على أم موسى عليه السلام- ولم تكن من الأنبياء- بأنها إذا خافت على ولدها فلتُلقِه في التابوت ولتُلقِ التابوت في اليمِّ.
4- نتيجة الوحي الإلهي، قام العبد الصالح المذكور في وقائع موسى عليه السلام بأعمالٍ كانت تبدو محلّ اعتراض ومخالفة للشرع بادئ الرأي.
لقد فنّد المسيح الموعود عليه السلام بتقديم هذه الأمثلة الأربعة الفكرة القائلة بأن الوحي من الله لا ينـزل على غير النبي، أو أن إلهام شخص من غير الأنبياء لا يكون يقينيا وجديرا بالثقة.
لقد استدل حضرته عليه السلام أولا من حادث العبد الصالح مع موسى عليه السلام ومن حادث أمِّ موسى أن إلهام الولي أيضًا يقينيٌّ وجدير بالثقة، فكلاهما عدَّ إلهامه يقينيا وصادقا، فألقى أحدُهما الولدَ في اليم ودفعه إلى الهلاك في الظاهر، وقتَل الثاني ولدا.
فلو لم يعُدَّا إلهامهما يقينيًا وصادقا لما قاما بما قاما به قط.
وتقديم هذا الاستدلال أمام عامة الناس كان يتطلَّب ظاهر أحداث القصة، ولا يغيُّر كونها كشفا في أن ما حدث فيها من أحداث هو ذو أهمية بالغة ويتضمَّن دروسا.
أما المعنى الباطني فلا مكان له في هذا السياق. ولو بيَّن حضرته عليه السلام مفهومها الباطني بدلاً من مفهومها الظاهري - كما فعل الخليفة الأول رضي الله عنه في درسه والخليفة الثاني رضي الله عنه في تفسيره- لما أصبح الاستدلال صحيحا، ولما كان له تأثيرٌ في عامة الناس.
والاستدلال الثاني الذي قام به المسيح الموعود عليه السلام من قصة سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح الذي هو الخضر، هو أن أولياء الله الذين يبلغون أسمى درجات الولاية، والذين ثبت يقينا بالأدلة الأخرى والآيات السماوية أنهم ملهمون من الله تعالى، لا يجوز لنا الاعتراض على أيّ من أقوالهم وأفعالهم إن لم نفهمه، لأننا لا نستطيع الوصول إلى كنه أقوالهم وأفعالهم.
أما سيدنا الخليفة الأول رضي الله عنه فقد ثبت عنه أنه قال بالمفهومين الظاهري والباطني للقصة. فقد وجّه في حياة المسيح الموعود عليه السلام رسالة إلى شخص موضّحا له هذه المسألة، واستدل فيها من هذه الآيات بمفهومها الظاهري فقط. وتلك الرسالة مسجّلة في نهاية كتاب إزالة الأوهام للمسيح الموعود عليه السلام ونصُّها:
".. فآمِنْ بهذه النبوءات، ولا تدّعِ المعرفة في فهمها. إن الحادث الذي حدث قبل سيدنا ومولانا خاتم الأنبياء ﷺ، والمذكور في بداية الجزء الخامس عشر وبداية الجزء السادس عشر من القرآن الكريم، لجديرٌ بالتدبر. هذا الحادث يتحدث عن سيدنا موسى عليه السلام، الذي هو من أولي العزم من الرسل وذي الشرع عند اليهود والنصارى والمسلمين جميعا، وقد قال هذا النبي المقدس ذات مرة: "أنا أعلم" - كما ذكر إمام المحدثين؛ الإمام البخاري وغيره رحمه الله- فثارت غيرةُ الله ودلّته على عبده الحبيب الخضر عليه السلام. وعندما لقي موسى عليه السلام هذا العارفَ، لم يستطع الوصول إلى كنه علومه وأسراره الحقة. فقال له الخضر عليه السلام: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وقال أيضا: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا. فكان من مقتضى الآداب الإلهية الالتزامُ بالصمت على الأقل بشأن مثل هؤلاء العباد. (إزالة الأوهام، الخزائن الروحانية مجلد 3 ص 628)
ولكن حضرة الخليفة الأول رضي الله عنه نفسه حين ألقى الدرس فيما بعد في المسجد، بيَّن فيه المفهوم الباطني لهذه الآيات، إذ كان حينها يفسر القرآن الكريم وكانت هذه المناسبة تقتضي تفسير القصة. كما بيَّن الخليفة الثاني رضي الله عنه أيضا مفهومها الباطني حصرًا في التفسير الكبير.
إذًا، لا يمكن القول بأن هناك تناقضا بين المفهوم الظاهري والمفهوم الباطني للآيات، أو بين ظاهر القصة وتأويلها؛ إذ يقدَّم المفهوم الظاهري من منطلق ويقدَّم المفهوم الباطني من منطلق آخر. ولهذا السبب لم يعترض أيٌّ من الصحابة على الخليفة الأول رضي الله عنه ولا على الخليفة الثاني رضي الله عنه بأنهما يتكلمان ضد كلام المسيح الموعود عليه السلام، لأنهم كانوا يستوعبون أن المسيح الموعود عليه السلام استدل بهذه الآيات على بعض القضايا بتقديم مفهومها الظاهري، أما الخلفاء فقدموا مفهومها الباطني لقول رسول الله ﷺ: « أُنزِلَ القرآن على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهرٌ وبطنٌ » (مشكل الآثار للطحاوي)، وعليه فهل يجوز أن يقال بأن هناك تعارضًا بين كلام شخصين استنتج أحدهما فائدة من ظاهر نص الآية شيئًا والآخر استنتج فائدة من باطنه؟!
من هو الخضر؟
الخضر هو شخصية حقيقية في الأصل، وتختلف الأقوال في اسمه ونسبه والزمن الذي عاش فيه، ولكن المسيح الموعود عليه السلام قد رجَّح القول بأنه "بليا بن ملكان" كما ورد في الروايات، ولكن حضرته لم يبين نسبه ويحدد زمنه، وإن كان حضرته قد قَبِل أنه إسرائيلي ضمنا لقبوله برواية عبد القادر الجيلاني الذي رأى الخضر في الكشف. ويرى المسيح الموعود عليه السلام أنه كان وليا ولم يكن نبيا، ولا يرى أنه حيٌّ مخلَّدٌ كما يعتقد البعض، بل ذكر حضرته أنه توفي حتما.
ما حقيقة قصة موسى عليه السلام مع الخضر؟ وهل هي حقيقية أم كشف روحاني؟
لم يقل المسيح الموعود عليه السلام أن القصة قد حدثت على الحقيقة، وإن كان قد تناول جانبها الظاهري في استدلالاته. فكما أن للرؤيا ظاهرا وتأويلا، وهنالك فوائد تستخلص من ظاهر الرؤيا وفوائد تستخلص من تأويلها، فهكذا تعامل حضرته مع القصة في استدلالاته. أما القول بأن حضرته عليه السلام يسلِّم بأن الخضر قد قتل الغلام في الحقيقة وخرق السفينة في الحقيقة فهذا مرجعه سوء الفهم.
ولم يرفض المسيح الموعود عليه السلام تأويل القصة وجوانبها الباطنية، إذ لم يعترض على تأويل الخليفة الأول في حياته. ومعلوم أن حضرته كان أحيانا يعترض على بعض التأويلات التي لم يذكرها حضرته عليه السلام وذكرها الخليفة الأول وكان عليه السلام يصححها، كمثل تأويل الخليفة الأول لنار إبراهيم بأنها نار العداوة فحسب، لكن المسيح الموعود عليه السلام قال إن إبراهيم عليه السلام قد أنجاه الله تعالى من النار الحقيقية أيضا، بل لو ألقي حضرته عليه السلام في النار فسوف يحميه الله منها! (حياة نور ص 75)، كما لم يكن ممكنا أن يقدِّم الخليفة الأول ومن بعده الخليفة الثاني تأويلا يناقض كلام المسيح الموعود عليه السلام، فلو أدركا أن حضرته قد قال بأن القصة حقيقية قطعا لما قدَّما تأويلا باطنا لها.
وقد قدَّم الخليفة الثاني رضي الله عنه في التفسير الكبير كثيرا من الأدلة التي تفيد تعذُّر أن تكون القصة حقيقية. ومن الواضح أن الخضر لم يكن معاصرا لموسى عليه السلام بل كان قد عاش في زمن سابق له، وإلا كان واجبا أن يتلازما، وأن يدخل الخضر في جماعة موسى عليه السلام لأنه نبي ومأمور من الله تعالى، وخاصة أن الخضر إسرائيلي أيضا.
هل رأى موسى الخضر في هذا الكشف أم النبي ﷺ؟
ما يتضح من القصة القرآنية، بل ومن الحديث الشريف ومن تعليق النبي ﷺ عليها، أن الذي رآه موسى في الكشف كان الخضر نفسه. أما تأويل هذا الكشف فهو أن الخضر كان يرمز إلى النبي ﷺ كما كان موسى عليه السلام بنفسه كان يرمز إلى بني إسرائيل ومسيرتهم مع النبي ﷺ.
فعندما قال الخليفة الأول رضي الله عنه أن الخضر كان ملاكا تمثَّلَ لموسى عليه السلام فهذا إنما يعني أن موسى رأى تمثلا للخضر في الكشف، وهذا التمثل يكون عن طريق الملائكة. وعندما قال الخليفة الثاني رضي الله عنه أنه النبي ﷺ إنما كان قصده أن تأويل الخضر في الرؤيا إنما هو النبي ﷺ. وهذا شائع في عالم الرؤيا، إذ يمكن أن يُرى الأدنى ليدلَّ على الأعلى، كما أن السلطان والملك يرمز إلى الله تعالى، ويمكن أن يُرى الأعلى ليدل على الأدنى كأن يرى أحد النبي ﷺ ويكون المقصود أحد من خلفائه أو خدامه أو من الأولياء الصالحين.
زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.