الغاية من خلق الإنسان وتجسيد العلاقة الروحية بين العبد وربه
"فلتكن العبادة هي حياتكم". (حضرة المسيح الموعود u)
الحياة الإنسانية قصيرة ومحدودة، تليها الحياة الأبدية. يُعدّ الإنسان في هذه الدنيا لحياته الآخرة، وعندما يتأمل في الموت، ينتابه شعور بالخوف والرهبة. سيُسأل الإنسان عند لقائه بالله تعالى عن الغاية من وجوده، وهي عبادة الله تعالى. ومن يحقق هذا الهدف السامي يواجه الموت بطمأنينة وسكينة، ومن تتغلغل محبة الله في قلبه يرى كل ما سواه بلا قيمة تُذكر. قال الله تعالى: ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[ (الذاريات: 57)
يقول حضرة المسيح الموعود u في تفسير هذه الآية: "فبِناء على هذه الآية كان المقصد الحقيقي للحياة البشرية عبادةَ الله ومعرفته، وأن يصير الإنسان لله وحده. ومن الواضح أن الإنسان لا يملك خيارا لكي يقرر غايةَ حياته من تلقاء نفسه، لأنه لا يأتي إلى هذا العالم بإرادته. ولا هو تاركها برضاه، فما هو إلا مخلوق.. فإنه مما لا شك فيه أن غاية خلق الإنسان إنما هي عبادة الله، ومعرفته، والفناء فيه تعالى". (فلسفة تعاليم الإسلام، الخزائن الروحانية، ج 10، ص 414)
حقيقة العبادة والانصباغ بصفات الله تعالى
يقول حضرة المسيح الموعود u: "وحقيقةُ العبادة الانصباغُ بصبغ المعبود، وهو عند أهل الحق كمال السعود، فإن العبد لا يكون عبدا في الحقيقة عند ذوي العرفان، إلا بعد أن تصير صفاتُه أظلالَ صفاتِ الرحمن، فمِن أمارات العبودية أن تتولد فيه ربوبيةٌ كربوبية حضرة العزة، وكذلك الرحمانية والرحيمية وصفة المجازاة، أظلالاً لصفات الحضرة الأحدية. وهذا الصراط المستقيم الذي أُمِرنا لنطلبه، والشرعةُ التي أوصينا لنرقُبها مِن كريم ذي الفضل المبين". (كرامات الصادقين، الخزائن الروحانية، ج 7، ص 146)
يقول الإمام الراغب الأصفهاني: "العبودية: إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها، لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى". (مفردات ألفاظ القرآن، كتاب العين، ص 542، دار القلم دمشق، ط 2009)
نماذج من عبادات سيد الخلق محمد المصطفى r
لقد وصف الله تعالى في سورة المزمل من القرآن الكريم عبادات النبي الكريم r بهذه الآية: ]إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ[ (المزمل: 21) قال حضرة عبد الله بن رواحة t عن عبادات رسول الله r:
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا استثقلتْ بالكافرين المضاجع
(صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب فضل من تعار من الليل وصلى)
لقد دعا سيدنا الحبيب حضرة محمد r أهل مكة إلى العبادات لعدة سنوات. وخلال هذه الفترة، تعرض للكثير من الأذى، لكن رغم ذلك كان r يدعو لهم بالهداية بحرقة شديدة. وقد ورد في الحديث: "عن مطرف عن أبيه قال: أتيت النبي r وهو يصلي، ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجل يعني يبكي". (سنن النسائي، كتاب السهو، باب البكاء في الصلاة) هكذا كانت عبادة النبي r حتى إن هناك روايات قد وردت أن قدميه الشريفتين كانتا تتفطران من طول الوقوف والقيام في الصلاة، فَعن عائشة رضي الله عنها أن نبي الله r كان يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال r: أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا". (صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك)
شغف الصحابة بالعبادة
عند التأمل في حياة الصحابة y، يتضح جليًا أن الهدف الأسمى الذي سعى كل واحد منهم لتحقيقه بعد دخوله في الإسلام كان الحصول على محبة الله تعالى. والطريقة المثلى التي تعلموها بإخلاص تام من حبيبهم r للتعبير عن هذا الحب والعشق لله كانت من خلال العبادة والتفاني. وهكذا، إذا أمعنّا النظر في سير الصحابة الكرام، نجد أن حبهم العميق لله تعالى هو السمة البارزة في حياتهم. لقد أصبحت مناجاة الله والتضرع إليه جزءًا لا يتجزأ من حياتهم اليومية. تروي إحدى زوجات حضرة عمر t عن حال عبادته الليلية فتقول:
"كان يصلي العتمة، ثم يأمرنا أن نضع عند رأسه تَورا[1] من ماء نغطيه، ويتعارّ من الليل، فيضع يده في الماء فيمسح وجهه ويديه، ثم يذكر الله ما شاء أن يذكر، ثم يتعار مرارا حتى يأتي على الساعة التي يقوم فيها لصلاته". (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج 9، دار الذكر بيروت، ط 1994، ص 74-75، كتاب المناقب، باب عبادته)
تأملات في عبادات حضرة المسيح الموعود u
عندما نلقي نظرة على حياة سيدنا حضرة المسيح الموعود u المباركة، نجد أن حياته كلها قد قُضيت في عبادة ربه. يقول حضرته u: "فلتكن العبادة هي حياتكم، وينبغي أن يكون الهدف من وراء حسناتكم أن يرضى بكم ذلك الحبيب الحقيقي والمحسن الحقيقي". (إزالة الأوهام، الخزائن الروحانية، ج 3، ص 548)
يصف حضرة المرزا بشير أحمد t حب حضرة المسيح الموعود u للصلاة وشغفه بالعبادة قائلا: "حدثتني والدتي المحترمة أن المسيح الموعود u قال لها: ذهبت مرة لمتابعة قضية في المحكمة فبدأت تُعرض على المحكمة قضايا أخرى وبقيت أنتظر دوري مستظلا بظل إحدى الأشجار، ولما حان وقت الصلاة بدأت بها هنالك، وبينما كنت في الصلاة إذ دُعيت مرة بعد أخرى في المحكمة إلا أنني واصلت الصلاة. فلما فرغت منها رأيت منادي المحكمة واقفا عندي، وما أن سلّمتُ وأنهيت الصلاة حتى قال لي هذا المنادي: مباركٌ لك يا ميرزا المحترم لأنك ربحتَ القضية". (سيرة المهدي، الجزء الأول، رقم الرواية 17، ص 15)
الغاية الحقيقية من العبادة
يقول حضرة الخليفة الخامس أيده الله بنصره العزيز: "ليس الهدف من العبادة معرفة الله فقط بل الهدف هو الوصول إلى رفعة روحانية بخلق التقوى في نفوسنا، وإدراك صفات الله. فحين يتولد إدراك الصفات عندئذ فقط يمكن أن يتراءى لنا كل شيء تافها وبلا قيمة مقابله I... فعندما تعبدون ربكم مخلصين له، فمن ناحية سيتربّى العالم كله تربية مادية مستفيضا بفيض الربوبية العامة، ومن ناحية ثانية تتقدم وتنمو مواهبكم الروحانية. ففي ذلك نصيحة أنه إذا كانت حالتنا الروحانية ليست على ما يرام أو ليست في طور التقدم، فهذا يعني أننا لا نؤدي حق عباداتنا، وبالنتيجة لا نستفيد من فيض الربوبية الروحانية. عندما نؤدي حق عبادة ربنا ونستفيد من صفاته من حيث الروحانية سنتقدم في التقوى أيضا، وحين نتقدم في التقوى، فلن تبقى عباداتنا مقصورة على شهر رمضان فقط، بل تحيط بالعام كله بل بحياتنا كلها. فعلينا أن نركز على عباداتنا واضعين هذا المبدأ في الحسبان". (خطبة الجمعة، 3/7/2015)
[1] إناء صغير. (المنجد)
زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.