loader
 

هل يجوز الترحم على غير المسلم؟

ما هو ثابت وواضح تمام الوضوح في إسلامنا العظيم؛ أن الأصل في العلاقة بين المسلم وغير المسلم هي المودة والمواساة والبر وحسن الجوار وحسن التعامل. ومن واجبات هذه العلاقة القائمة على البر والإحسان أن يبذل المسلم كل ما في وسعه لمواساة غير المسلم وخدمته ومد يد العون له، ومن أوجب الواجبات بألا يقتصر الأمر على ما يبذله من جهد، بل بأن يدعو له الله تعالى بالهداية والرحمة والمغفرة حيا، وبعد وفاته أيضا، فمن كان يخدم بهذه الروح فلا بد أنه سيرغب له بالخير والبركة في الدنيا والآخرة. وهذا في صلب تعاليم الإسلام والذي جاء في آيات وأحاديث يصعب حصرها.

أما إذا كان غير المسلم محاددا لله ورسوله؛ أي كان مشهرا للعداوة ويسب ويشتم أو يؤذي المسلمين بأي وسيلة، أو كان يعتدي عليهم ويقتلهم أو يشن حربا أو عدوانا عليهم بسبب دينهم، فهذا لا تجوز مواددته، ولا يجوز الاستغفار له حيا، كما لا يجوز الترحم عليه فيما لو مات على هذا العمل ولم ينتهِ ولم يتب. وحتى هذا المحادد أو المعادي المحارب، فيجوز في حياته أن ندعو الله تعالى له أن يترك هذه العداوة ويتوب، والواقع أن عددا كبيرا من الصحابة كانوا من هذه الفئة الذين هداهم الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم.

هذه الأمور مسلَّمات لا أرى أن أحدا يمكن أن يختلف عليها.

وهكذا، فإنه لو توفي جار غير مسلم، لم يكن محاددا لله ولرسوله، ولم يُعرف عنه أنه كان يسب أو يشتم الإسلام، فإن الإسلام يوجب أن نواسيه وأن نترحم عليه، وأن نواسي أهله باحترام هذا المصاب، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لدى مرور جنازة اليهودي، والذي قال عندما نبهوه أنها ليهودي:

{أَلَيْسَتْ نَفْسًا } (صحيح البخاري، كتاب الجنائز)

أما الذين يثيرون حرمة الترحم، فهؤلاء يتجاوزون كل هذه الأدلة القاطعة، ويستند بعضهم إلى فهمهم الخاطئ وإيقاع المسألة في غير محلها، بذكر الآيات التي تنهى عن الاستغفار للمحاددين لله ولرسوله وللمعتدين المحاربين، فهؤلاء هم فقط الذين لا يجوز أن نواددهم، بل هؤلاء لا بد من قطع الروابط معهم حتى لو كانوا من أقرب الأقارب، إذ يقول تعالى:

{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } (المجادلة 23)

ولكنه تعالى يقول:

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة 9-10)

وهؤلاء الذين نهى الله عن مواددتهم، قد منع من الاستغفار لهم ما داموا على العداوة أو بعدما يتبين للمسلمين بأنهم من أصحاب الجحيم:

{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } (التوبة 113)

ولكن كيف نتبين أنهم من أصحاب الجحيم؟ هل بسبب أنهم لم يؤمنوا بالإسلام فحسب أم بسبب أنهم ماتوا على المحاددة والعدواة؟ بالطبع، فإن موتهم على العداوة والمحاددة يمنعنا من الاستغفار لهم أو الدعاء لهم. لأن هؤلاء الذين ماتوا على هذه الحالة يقول الله تعالى إنه لن يغفر لهم:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (البقرة 162)

فهذه هي وسيلة التبين المتاحة لنا بالنسبة للمحاددين فقط، وهنا الكفر ليس كفر المعتقد فحسب، بل المقصود به المعاداة والمحاددة لله ولرسوله، لأن الله تعالى لم يلعن أحدا بسبب معتقده - الذي قد يكون ورثه ولا دور له فيه ولم يتبين له الحق في الإسلام - بل بسبب أفعاله ومواقفه. أما الذي يعتقد معتقدا ولا يعرف الحق، فعسى أن يكون ناجيا عند الله تعالى، بنص القرآن الكريم الذي يقول:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 63)

وهذه الآية تقول إن كل من آمن بالله وباليوم الآخر- مهما كان معتقده- وعمل عملا صالحا، فلن يحرمه الله تعالى من أجره. والذين يقولون إن هذا كان فقط قبل الإسلام وقبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يرسل إلا {رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء 108) فهؤلاء لم يفهموا من الإسلام شيئا، مع شديد الأسف. إن عقيدة الإسلام في النجاة من أجمل درره التي عمل هؤلاء بجهلهم على محاولة طمسها؛ إذ رغم أنه يؤكد أنه الدين الحق وحده، إلا أن الله تعالى لن يحرم أحدا من أجره فيما لو لم يتبين له ذلك. علما أن هذا الأمر لا يعمله إلا الله، ولا نحكم بنجاة مسلم أو غير مسلم، لأن النجاة تتعلق بالعمل والقبول عند الله تعالى. ولا شك أن المسلم أقرب إلى النجاة لسلامة عقيدته التي قد تقوده إلى إحسان العمل، ولكن ليس شرطا أن ينجو إن فسد عمله وتورط في السيئات، كما أن فساد عقيدة أحد لن تحول دون نجاته إن عمل صالحا، ما دام لم يتيسر له تبين الحق ولم تقم عليه الحجة.

والواقع أن الدعشنة المعاصرة والتطرف التاريخي لدى بعض المدارس الفكرية في الإسلام لم تتولد إلا من هذا المنهج في تعميم آيات تتعلق بفئة من غير المسلمين_ وهم المحاددون المعادون أو المحاربون للمسلمين لردهم عن دينهم- فنظروا إلى الآية الكريمة، التي جاءت في سياق قتال هؤلاء المعتدين، والتي تقول:

{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة 29)

على أنها دعوة لمحاربة أهل الكتاب كافة دون تمييز، وإرغام من ينجو منهم أو من يستسلم على دفع الجزية! ورأينا تطبيق هذه المأساة في دولة داعش البائسة التي انقضَّت على المواطنين بزعم أن هذا ما يأمر به الإسلام!

فهذا هو المنهج ذاته الذي قاد للدعشنة، وهذا المهنج الذي دفعهم لقولهم بهذه الأحكام الغريبة العجيبة، وبتطبيقهم هذا المنهج في مسألة الترحم على غير المسلم. وقد نسي هؤلاء أن الإسلام يبيح للمسلم الزواج من الكتابية غير المسلمة، وبخاصة المسيحية أو اليهودية، وأن هذا الزواج بحد ذاته يبين هذه الأحكام كلها في سياقها الطبيعي، ويرد على جميع الشبهات التي يثيرها هؤلاء الجهلة الذين اسودت قلوبهم وتشوهت نفوسهم وأصبحت تنز كراهية.

ففي مجتمعنا، فالمسلم الذي يختار زوجة مسيحية لا شك أنه يواددها بل ويحبها، فكيف له أن يواددها فيما لو كانت ممن ينهى الله عن مواددته؟

وابن هذا المسلم، الذي يولد من أم مسيحية ويكون مسلما، هل يجب ألا يدعو في صلاته لولادته؟

ثم إذا ماتت والدته، فهل لا يجوز له ولا لوالده الترحم عليها؟

كيف سيطبقون فكرتهم عن حرمة الترحم على غير المسلم عموما مع هذه الحالات؟ وكيف سيتملصون ويبررون إلا ببعض السخافات المثيرة للسخرية؟

وباختصار، فإن تعميم أحكام تتعلق بفئة من المحاددين المعتدين لتشمل جميع غير المسلمين خطأ فادح ينم عن جهل بتعاليم الإسلام، وهذه مسألة جوهرية لها علاقة بكل الأحكام الشاذة التي يروج لها هؤلاء. ومن يقول بحرمة الترحم على غير مسلم – خاصة إذا كان شخصا طيبا خدم مجتمعه أو قضيته وكان حسن السيرة وقُتل مظلوما - فهؤلاء قد خرجوا من الإنسانية وانتُزعت من صدورهم الرحمة التي هي جوهر الإسلام والسبب الحصري لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم، والإسلام العظيم منهم ومن مواقفهم ومن أفهامهم براء.

  


 

خطب الجمعة الأخيرة