من الاعتراضات التي تثار ضدّ القرآن الكريم، خاصة من قبل بعض رجال الدين المسيحي المعاصرين والملاحدة وغيرهم من أعداء الدين الإسلامي، هي وجود أخطاء لغوية في القرآن الكريم. فيدعي هؤلاء الأخطاء النحوية في القرآن الكريم والتي تتعارض مع قواعد اللغة العربية المعروفة.
ردّا على كل هذا نقول ما يلي:
إن الذي يعترض على القرآن الكريم بمثل هذه الاعتراضات، فهو في الحقيقة يجهل أساسيات اللغة العربية، ولا يعرف كيف بُنيت قواعد اللغة العربية. فالقرآن الكريم في الحقيقة هو المصدر الأول الذي بنيت عليه هذه القواعد وأُخذت واستُمدت منه. فإذا كان القرآن هو مصدر القواعد ومصدر اللغة، فكيف يمكن أن يُعترض على المصدر وعلى الأصل بالفروع المأخوذة والمنبثقة منه؟
فجدير بالذكر أن النحاة عندما شرعوا في صناعة النحو وبناء القواعد اللغوية، اعتمدوا على ما جُمع من اللغة العربية من القرآن الكريم والقبائل العربية المختلفة على وجه الخصوص، ثم بنوا القواعد العربية بناء على الأشهر من لغات العرب.
وقواعد النحو في الأصل قد حاولت ضبط اللغة إلى أكبر قدر ممكن، وتضمنت قواعد أساسية تنطبق على أكثر الكلام، لكنها أيضا تضمنت فروعا لا يعرفها كثير ممن يعرفون القواعد معرفة سطحية أو غير معمقة. كذلك فإن للكلام وجوها وتخريجات نحوية عدة. فقد يعترض معترض على كلام يظنه مخالفا لقواعد النحو، ولا يعلم أن ما اعترض عليه له وجه لا يعرفه أو قاعدة فرعية وأمثلة عالجها النحويون، أو أنه لم يدرك حقيقة الكلام أصلا وطبَّق عليه ما لا ينطبق. وأكثر الاعتراضات من هؤلاء تقع في هذا الباب. هذا فضلا عن أن علماء النحو قد أقروا بأن في كلام العرب ما لا يوافق ما قعَّدوه من القواعد، وخاصة في لغات العرب المتنوعة ولهجاتهم. فهذه القواعد اعتمدت على أشهر الكلام وأوسع التطبيق، ولكنها لا تدَّعي أنها تضبط الكلام العربي كله.
لذا، فإن السبيل المنطقي هو أن نحكم على القواعد اللغوية بناء على القرآن الكريم وليس أن نحكم على القرآن بناء على القواعد النحوية المستمدة منه. وإذا أردنا أن نعرف صحة قاعدة نحوية، فلا بدّ أن نرى فيما إذا كان هناك ما يؤيدها في القرآن الكريم ولغات العرب أو لا؛ فإن رأينا ما يؤيدها حكمنا عليها بصحتها وإلّا فلا. وإذا رأينا بعض التضارب بين القواعد اللغوية والقرآن الكريم، فلا شك أن المشكلة تقع في فهمنا لهذه القواعد، وأن علمنا بها ليس علما كاملا.
ومن الجدير ذكره أن هؤلاء المعترضين يبنون اعتراضاتهم بناء على علمهم الضيق الموافق لمنهاج الدراسة الضيق على مستوى الصفوف الابتدائية، وهم لا يعلمون أن مناهج الدراسة لا تشمل كل القواعد اللغوية، ناهيك عن أنها لا تشمل الحديث عن مجمل لغات العرب المختلفة، التي فيها اختلاف في قواعدها النحوية والصرفية.
ولا يدرك بعض الأمور أيضا من درَس اللغة العربية دراسة أكاديمية بسيطة في المدارس أو الجامعات؛ فما يُعلَّم اليوم في المدارس والجامعات هو منهاج ضيق يشمل بالذات أهم القواعد وأكثرها شيوعا، غير أنه هناك قواعد أخرى ولغات نحوية مختلفة لا يتم التطرق إليها حتى في بعض المناهج الجامعية، ولا يطّلع عليها إلا الباحثون اللغويون المتعمقون. فالقصية هي أنه لا بدّ من التنبه وعدم الحكم على القرآن الكريم بناء على المناهج اللغوية الضيقة، بل لا بدّ من نظرة شمولية في اللغة العربية ولغات العرب المختلفة، من أجل فهم هذه القواعد القرآنية وفهم صحتها.
نعرض فيما يلي أهم الاعتراضات اللغوية الموجهة ضد القرآن الكريم لنجيب عليها بالتفصيل:
1: الآية {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } (طه 64)
يدّعي المعترضون الخطأ في الآية {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } (طه 64) ويقولون إن الصحيح هو (إنْ هذين لساحران) لان هذين اسم لإنّ ولا بدّ ان يكون منصوبا.
لهذه الآية عدة توجيهات، منها توجيهات وتخريجات وهي كما يلي:
1: القراءة التي بين يدينا هي ليس ب (إنّ) المشددة بل المخففة (إنْ هذان لساحران)، فعندما تخفَّف (إنّ) يجوز إهمال عملها، فيبقى المبتدأ والخبر بعدها مرفوعين، وليس ك (إنّ) المشددة التي تنصب الأول وترفع الثاني.
2: لو بقيت إن المخففة هذه على عملها -وذلك يجوز أيضا - لكان توجيه هذه الآية كتوجيه قراءة التشديد (إنّ هذان لساحران) الواردة أيضا؛ وذلك على ثلاث نواح.
أ: على لغة للعرب التي تلزم الاسم المثنى الألف في جميع حالات إعرابه، في الرفع والنصب والجر، وعليها تكون كلمة (هذان) منصوبة بفتحة مقدرة على الألف مثل الاسم المقصور على اعتبارها اسما لإنّ. وهذه لغة بلحارث أو بني الحارث بن كعب وكنانة وغيرهم من قبائل العرب.
ب: من الممكن اعتبار اسم إنْ/ إنّ ضمير الشأن المحذوف منصوبا، والجملة بعده من المبتدأ والخبر المرفوعين في محل رفع خبرها. وكأننا نقول (إنّه/ إنّ الشأن ..هذان لساحران)
كما في الحديث:
{إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ } (سنن النسائي, كتاب الزينة)
وفي هذا جاء ما يلي:
"ومما يطّرد فيه الحذف ضمير الشأن إذا كان اسما لإن وكأن ولكن وأن، قال سيبويه: "روى الخليل أن ناسا يقولون: إنّ بك زيدٌ مأخوذٌ، وقال: هذا على قوله: إنه بك زيد مأخوذ" [المدارس النحوية (ص: 41 - 42)]
وجاء في نفس المصدر :
"وتابع الخليل في أن اسم إن وأخواتها إذا كان ضمير شأن حذف كثيرا"[المدارس النحوية (ص: 75)]
ج: على اعتبار "إن" حرف بمعنى نعم؛ فلا عمل لها. و"هذان" مبتدأ، واللام داخلة على مبتدأ محذوف، و"ساحران" خبر المبتدأ المحذوف. والجملة خبر "هذان"، وقيل إنه جاء على لغة من يلزم المثنى الألف. وفي هذا جاء:
"وَتَكون (إنّ) بِمَعْنى أجل فَلَا تعْمل شَيْئا كَقَوْل الْقَائِل لِابْنِ الزبير لعن الله نَاقَة حَملتنِي إِلَيْك فَقَالَ إنَّ وراكبها مَعْنَاهُ أجل" [حروف المعاني والصفات (ص: 56)] أي : نعم! ولعن راكبَها.
" وقد جاءت "إن" بمعنى "نَعَمْ" كثيرًا. قال الشاعر [من مجزوء الكامل]:
بَكَرَ العَواذِلُ في الصَّبُو ... حِ يَلُمْنَنِي وألَومُهُنهْ
وَيقُلْنَ شَيْبٌ قد عَلا ... ك وقد كَبِرْتَ، فقلتُ: إنَّهْ [شرح المفصل لابن يعيش (2/ 358)]
3: هنالك قراءة بالنصب بالياء أيضا ( إنّ هذين لساحران)
وكل هذا دليل على أن الوحي القرآنيّ والقراءات القرآنية تحاكي لغات العرب المختلفة وتراعي الاختلافات القبلية النحوية.
4: رأي الكوفيين: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} على أن (إنْ) نافية واللام بمعنى إلا، والتقدير: ما هذان إلا ساحران
2: الآية: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى } (المائدة 70)
يقولون إن كلمة (الصابئون) في هذه الآية خاطئة لأنها معطوفة على اسم إنّ بالنصب، فلا بدّ ان تكون (الصابئين) كما في الآية المشابهة لها { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ } (البقرة 63).
وفي الرد عليه نقول:
هذا كله دليل على جمال واتساع اللغة العربية، وأن الوحي القرآني يحاكي هذه اللغات المختلفة والقواعد المختلفة.
فـــ (الصابئين) في الآية الثانية تسير على القاعدة المعروفة، وهي معطوفة على اسم إن المنصوب (الذين) فلذلك جاءت منصوبة.
أما (الصابئون) في الأولى فلها عدة توجيهات أيضا:
1: إنها مرفوعة على الابتداء أو الاستئناف بتقدير (والصابئون كذلك )
2: على أنّ اسم إنّ هو ضمير الشان المحذوف، وكل الكلمات بعدها مرفوعة (الذين آمنوا ) مبتدأ مرفوع وما بعده معطوف عليه بالرفع ك "الصابئون" .
3: (الصابئون) معطوفة على محل اسم إن ؛ وليس على الاسم نفسه، وهذا ما يدعى العطف على الموضع أو المحل، ومحل اسم إن هو المبتدأ في الأصل وهو مرفوع، أو ممكن أن يقال معطوف على محل (إن واسمها) وهو في الأصل مبتدأ مرفوع ، فلذلك وجب الرفع. وجاء ما يماثل هذا في الشعر:
إِنَّ النُّبُوَّةَ وَالْخِلاَفَةَ فِيهُمُ ... وَالمَكْرُمَاتُ وَسَادَةٌ أَطْهَارُ [اللمحة في شرح الملحة (2/ 556)]
المكرماتُ: مرفوعة لعطفها على محل إن واسمها، وليس على اسم إن المنصوب (النبوة).
وقيل إنه في الآية التالية أيضا: "أن الله بريء من المشركين ورسولُه" (2): "ورسولُه بالرفع عطفا على محل إن واسمها.
3: الآية: { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (163)} (النساء 163)
لقد جاءت فيها كلمة (المقيمين) منصوبة خلافا لكل الكلمات الأخرى المرفوعة والمذكورة في الآية. وهذا هو موضع الاعتراض إذ وفق المعارضين لا بدّ من القول (المقيمون) على اعتبارها معطوفة على المرفوعات السابقة لها.
فأحسن ما قيل في توجيهها: أن {الْمُقِيمِينَ} منصوب على القطع المفيد للمدح؛ لبيان فضل الصلاة، فهو مفعول به لفعل محذوف تقديره: أمدح المقيمين الصلاة. وعليه يكون قوله: {الرَّاسخُونَ} مبتدأ خبره جملة: {يُؤْمِنُون} ومتعلقاتها حتى يكون القطع بعد تمام الجملة الأولى.
إذن، فــ (المقيمين) منصوبة على المدح والاختصاص بمعنى وأمدح وأخص المقيمين الصلاة للدلالة على أهمية إقامة الصلاة .
هذه هي التوجيهات المختلفة لهذه الاعتراضات، وما نأتي بها إلا من باب ملاحقة العيّار لباب الدار كما يقول المثل العربي، إذ كما أسلفنا ليس المنطق أن نحكم على القرآن الكريم بناء على القواعد المستمدة منه، فالقرآن الكريم هو أصل اللغة وأصل النحو وأصل القواعد النحوية المختلفة.