loader
 

عبادة بربوش (أبو حمزة التونسي)

لا تخلو حياة أي إنسان من أحداث هامة يؤثر بعضها على مجرى حياته وأخرى على شخصيته. ولا شك أن المرء المتدين الذي يقف نفسه لخدمة الجماعة بكل جدية وتفاني وإخلاص يمر قبل وقف حياته وبعدها بتجارب روحية يعجز اللسان عن لمس معالمها ووصف دقائقها.

وكم كان الأخ عبادة يتمنى أن لا يذكر أي تفاصيل شخصية بهذا الخصوص خلال حياته خوفا من أن يُصاب بالغرور أو يلعب الشيطان برأسه فيظن أنه من المحظوظين المختارين. ورأى أن يكتب النزر القليل يُوصي بأن يُنشر بعد أن يغادر هذه الدنيا. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن لأنني أخيرا أخضعته لرغبتي وأقنعته أن هنالك كرامات عديدة عاينها في شخص الخليفة الرابع رحمه الله يجب عليه من باب الأمانة أن يفصح بها وينشرها لأنها في حقيقة الأمر ليست ملكا له ولكنها من تراث الجماعة وتاريخها. فمن هذا المنطلق خط هذه السطور والتي إن ذكر فيها شيئا عن شخصه فهو مضطر لذلك كي لا يبتر تسلسل الأحداث.(الأستاذ محمد طاهر نديم )

وُلدت في تونس في مدينة اسمها الكاف سنة 1963 في عائلة ثرية حيث أنعم الله على والدي بالعقارات وتجارة رابحة إلى جانب أراضي شاسعة. وحظيت العائلة باحترام واسع النطاق حيث إن أجداد والدتي كانوا من مشائخ الصوفية وعُرفوا بقبول أدعيتهم. فكانوا يخطون نص القرآن الكريم في شكل مصاحف بأيديهم كي يتمكن الناس من قرائته وذلك لقلة توفر المصاحف. ولا زالت بعض هذه النسخ محتفظ بها في متاحف تونس.

ومن أهم المعالم التي رسخت في ذهني خلال دراستي الابتدائية هي تلك الحسرة الجياشة التي كانت تتولد في قلبي كلما يذكر المدرس مناقب أحد الخلفاء الراشدين.. كنت عندها أشعر بخيبة عظيمة على سوء حظي أنني لم أحظ بمقابلة خليفة راشد. وبسبب هذه الأمنية الصبيانية البريئة والحب الصادق والنقي لمؤسسة الخلافة توَّجه الله عز وجل وأكرمني بشرف عظيم لم أحلم به قط حيث أصبحت المترجم الرسمي العربي للخليفة الرابع رحمه الله.
خلال دراستي الثانوية كنت مولعا بالسفر إلى أوروبا خلال العُطل. ففي سنة 1983 زرت لندن مع صديق لي لمدة 4 أيام ثم سافرت إلى كوبنهاجن (الدانمرك) حيث مكثت 3 أسابيع. استأجرت غرفة لدى عائلة دنماركية في قلب العاصمة ودفعني حماسي الديني إلى الحديث عن شمائل الإسلام لصاحب البيت وما شد اهتمامي كانت إجابته أنه لديه معرفة بمبادئ الإسلام وأحضر ترجمة للقرآن الكريم باللغة الدانماركية في ثلاثة أجزاء. استغربت حينها لأنني كنت على علم أن الترجمة الوحيدة للقرآن الكريم كانت باللغة الفرنسية. غمرتني الفرحة والسرور وقررت أن أزور المؤسسة التي قامت بالترجمة كي أبارك لهم شخصيا الخدمة الجليلة التي قدموها للإسلام. فأخذت العنوان من النسخة وكان يسمى "المركز الإسلامي" ... فتوكلت على الله وذهبت يوم الجمعة لأصلي الجمعة وأبارك من قام بالترجمة. وبطبيعة الحال كنت أتوقع أن المركز الإسلامي يديره العرب فنحن من خدمنا الإسلام لعقود طويلة. وعند وصولي إلى المسجد استغربت فالرجل الذي فتح لي الباب كان باكستانيا في سن 25. أخبرني أن صلاة الجمعة بعد ساعتين وسألني من أين أتيت ثم دعاني أن أنتظر في الداخل في قاعة الضيوف. تجاذبنا أطراف الحديث فتبين لي أنه إمام المسجد واسمه منصور مبشر. وبما أنني وصلت المسجد باكرا قابلت معظم المصلين قبل الصلاة وبعدها. ومما لم يكن في حسباني ولا تخطيطي هو أنني قابلت العالم الجليل عبد السلام مدسن الذي ترجم القرآن إلى اللغة الدانمركية. وسرعان ما أحببنا بعضنا حيث أنه من عشاق مدينة القيروان التونسية التي يسميها المؤرخون بمكة الصغيرة والتي زارها إلى ذلك الحين سبع مرات. كنت منتبها وأسجل في ذهني جميع حركات وسكنات الإخوة حتى لما تناولنا الغداء مع بعضنا كنت أراقب تطبيقهم للسنة النبوية الشريفة.
أُعجبت إعجابا شديدا بمن رأيتهم حتى إنني لامست نورا في وجوههم وسرعان ما اطمأن قلبي إليهم وأحببتهم. وفي المساء عندما رجعت إلى مقر إقامتي سألني صديقي الذي سافر معي من تونس كيف وجدت الناس في المسجد؟ وأتذكر إجابتي جيدا حيث قلت له: اليوم قابلت مسلمين من طراز عال وإن كان هؤلاء ليسوا بمسلمين فلا أظن أن هنالك مسلم على وجه الأرض !!
تكررت الزيارات لمركز الجماعة ولسوء الحظ كان في حوزة الداعية كتابين أو ثلاثة باللغة العربية لم يفوا بغرض التعريف الشامل بمعتقدات الجماعة وطبعا لم يدخر الداعية وسعا بالتعريف. وبما أن أجدادي كانوا من الصوفية فكانت والدتي تذكر لنا أحاديث ظهور المهدي ونزول المسيح...إلخ فكانت لي فكرة سابقة سهلت عليَّ فهم مبادئ الجماعة. اشتعلت غيرتي على خدمة الدين بعد أن رأيت ما قام به الإخوة الباكستانيين من خدمات جليلة للإسلام وقلت في نفسي نحن العرب أولى من أي شعب بخدمة الإسلام فقررت أن أنخرط أو بالأحرى أن أبايع بعد ما رأيته من بهاء ديني والأخلاق الحميدة التي يتمتع بها أبناء الجماعة صغارا وكبارا. بايعت ثم عدت إلى تونس لمتابعة تعليمي الثانوي.

بعد إنهاء التعليم الثانوي قررت أن أدرس علم النفس في جامعة مونتريال- كندا وفي نفس الوقت كنت أفكر في وقف حياتي لخدمة الإسلام. كنت مترددًا فدعوت الله طويلا كي يُري والدتي منامًا يُوضح فيه الطريق لمستقبلي. وبعد بضعة أيام دقت والدتي باب غرفتي صباحا وقالت لقد رأيت منامًا رائعا البارحة. رأيتك أنت ورجل آخر متجهين إلى مكة المكرمة وكنتما مرتديان جبتين بيضاوتين وكانت لكما لحية مميزة. وكنتما طوال جدا أطول من أي شخص في الحشد الغفير حول الكعبة الذين كانوا يتطلعون لكما بشغف. وفي الأخير أنتما فقط دخلتما الكعبة من بابها. (تبين لاحقا أن الرجل الآخر كان حضرة مرزا طاهر أحمد رحمه الله وذلك بعد إقامتي في لندن وإرسال صورة لي مع حضرته. كان رد والدتي رحمها الله: هذا هو الرجل الذي رأيته معك منذ سنين طويلة حيث بقيت صورته عالقة في ذهني)
لقد كان هذا المنام بمثابة البلسم لجراحي حيث كنت غير متيقن ماذا أدرس.. علم النفس أم علوم الدين. دعوت طويلا ثم كتبت للخليفة الرابع بخصوص وقف حياتي لخدمة الدين ودراسة العلوم الدينية في الجامعة الأحمدية بباكستان. وبعد بضعة أيام أراني الله مناما أنني سأسافر إلى لندن وأستقر هناك. استغربت مبدئيا ثم جاءني الرد من حضرة الخليفة بقبول وقفي وذكر لي أن الظروف الراهنة في الباكستان لا تسمح لي بالسفر هنالك للتعلم وطلب مني أن آتي إلى لندن.
كان من الصعب عليَّ مغادرة البلاد في تلك الآونة إلا بعد أن أقوم بالخدمة العسكرية لسنة أو أطول وهذا الأمر قد يعكر عليَّ برنامجي أو يغير وجهتي. وحصل ما لم يكن في الحسبان.. قررت الحكومة التونسية لأسباب مجهولة أن تُدخل مواليد سنة 1963 تحت جيش الاحتياط أي لا حاجة لها بهم بأن يقوموا بالخدمة العسكرية وسيطبق هذا القانون بعد ثلاثة أشهر.
بعد إصدار هذا القانون رأيت في المنام أن السلطات قد أوقفتني وطلبت مني القيام بالخدمة العسكرية والغريب في الأمر أنني كنت مرتديا الزي العسكري فقلت لهم كيف تطلبون مني ذلك ألا ترون أنني جندي !!
لم أفهم مغزى المنام إلا بعد أن أوقفتني السلطات قبل شهر من أن يصبح القانون ساري المفعول وكادوا يسلموني للجيش لولا تدخل صديق والدي ذو المكانة العالية في جهاز الأمن. فهمت بعدها أن الله أنقذني لأنني جندي تابع للمسيح الموعود عليه السلام. قد يبدو الأمر هينا ولكنه عظيم بالنسبة لي وكأن القانون غُير من أجلي أنا فقط وأراني الله في مناسبتين قدرتين عظيمتين كي يظهر لي علو شأن الوقف لخدمة الدين.

لقاء الحبيب
في مارس 1987 حضرت إلى لندن بدعوة من الخليفة الرابع رحمه الله. وأذكر جيدًا أن الاستفسارات التي كانت تدور في خلدي حول ختم النبوة التي لم أنهل من نفحاتها إلا القليل زالت جميعها لما وقعت عيناي على وجهه الشريف وحين عانقني حضرته في لقائي الأول. وبعد بضعة أيام وخلال زيارتي الثانية لحضرته عانقني طويلا وكان يدعو لي بالخير حيث كنت أشعر بذقنه يتحرك ملامسا كتفي، ثم قال: لقد حان وقت صلاة المغرب لنذهب لأدائها. دخلت المسجد وأنا في حالة انتعاش روحي لم أشهد لها مثيلا من قبل. فبمجرد أن يقرأ حضرته آيات القرآن الكريم تنهمر الدموع من عيني بغزارة، ولم يكن بمقدوري التحكم فيها. كنت أدعو الله أن يسرع الخليفة في تلاوته لأن عيناي اللتان فقدت السيطرة عليهما كانتا تؤلمانني من شدة البكاء. لقد أصبحت فعلا أسير حب هذا الرجل الطاهر الذي قد يذيقني طعم الحب الإلهي الصادق. وها هو إن صح التعبير منحني بإذن الله قبسًا من حاله الروحاني فكان بلسما لجميع جراحي الروحية.
هكذا كانت بداية مشواري في عالَم شمائل وخصال وكرامات من انصبغ في حركاته وسكناته بكتاب الله وسنة رسوله الكريم وبات من خلالها يربي ويهذب طبائع أفراد جماعته المباركة.
طلب مني حضرته خلال لقاءات تالية أن ألازم الأستاذ مصطفى ثابت وأدرس على يده علم كلام الجماعة. وبما أنه كان مسئولا على تأثيث مطبعة الرقيم كنت أسافر معه إلى المطبعة في إسلام آباد فلاحظت أنها بحاجة إلى الطلي قبل أن يتسلموا الآلات ولم يكن هنالك أي شخص متوفر للقيام بذلك فتطوعت. ويا له من تطوع حيث حصل لي شرف لقاء حضرته للمرة الثالثة حيث دخل صدفة وأنا منهمك في الطلي، ألقى السلام ثم عرض يده الشريفة لمصافحتي. لم أعرض يدي وأشرت بأنها ملطخة بالدهان ولا تليق بمكانة حضرته. ابتسم وقال: ما دمت مسرورا وراض أن تكون يدك في هذه الحالة فأنا أيضا مسرور بها كما هي وصافحني بحرارة دون أن يبالي بما كان عليها، ثم أخذ بيدي وقال: تعال معي لنأخذ صورة. وما أن ترك المكان وقعت على الأرض باكيا من شدة أثر هذه المعاملة الخارقة للعادة التي لا تصدر إلا من اصطبغ بصفات الله بأتم معنى الكلمة.

بركة الدعاء
كان مقررا حسب رغبة الخليفة الرابع أن تُصدر الجماعة مجلة عربية من لندن أطلقت عليها اسم التقوى وتم هذا الأمر في مايو 1987 حيث طلب مني حضرة الخليفة أن أتدرب على الصف الإلكتروني باللغة العربية وأصف المجلة شهريا وهكذا تمكنت من القيام بهذه المهام تحت إشراف حسن عودة الذي كان رئيس تحرير التقوى آنذاك، وسأذكر بعض التفاصيل عنه في مجرى تسلسل الحديث كي يدون التاريخ الحقائق.
في تلك الظروف كنت قد سجلت إسمي لدى مكتب الزواج بالجماعة ولكن لفترة طويلة لم أتوصل لعروض مناسبة لدرجة أنني فقدت الأمل خصوصا أن وزارة الداخلية البريطانية رفضت إعطائي تأشيرة شغل لدى الجماعة لأنهم شكُّوا في أمري لأنني كنت العربي الوحيد في المركز بلندن تقدمت له الجماعة بطلب تأشيرة شغل. المهم كنت في حالة لا أُحسد عليها.. لا تأشيرة ولا زواج!!

لا زلت أذكر جيدا أنه في أحد الأيام بعد صلاة الجمعة دعاني إلى مقهى بعض الإخوة الجزائريين ومغاربة انضموا حديثا للجماعة وقالوا لي بالحرف الواحد إن هؤلاء الباكستانيين لن يزوجوك ولن يحضروا لك تأشيرة وعرضوا عليَّ عرضا مغريا.. شغلا بأجر مناسب وطلبوا مني أن أترك الجماعة. رجعت إثرها إلى مسجد الفضل صليت ركعتين دعوت فيهما طويلا الله معربًا أنني حضرت إلى لندن لخدمة الدين ولم آتي لدنيا أصيبها وإنني خُيرتُ فاخترت سبيل الجماعة وخدمة الدين بكيت طويلا متضرعًا لله أن يقبل مني هذه الأمنية.. وما هي إلا أيام حتى جاءني الأستاذ منير جويد (سكرتير الخليفة الحالي) يخبرني أن هنالك عائلة ترغب في لقائي من أجل تزويج ابنتهم لي. زرت العائلة واستغربت لقلة استفساراتهم وبالغ اهتمامهم في عرضي للزواج. تبين لي لاحقا أن ابنتهم سمعت صوتًا وهي بين اليقظة والنوم قال لها:
"عرض الزواج القادم من إسلام آباد هو الأفضل لكِ."
وكانت تتوقع بعد هذا الكشف أنه سيأتيها عرض زواج من العاصمة الباكستانية إسلام آباد. ولكن عند زيارة الأخ منير جاويد لبيتهم وذكر أن هنالك شاب عربي يرغب في الزواج من ابنتكم سُئل أين يقطن؟ فقال: اسلام آباد - بريطانيا.. كانت إجابته مثل الرجة الأرضية لهم حيث أنها أخبرت عائلتها بما سمعت في الكشف منذ بضعة أيام. عندها عرفوا أن هذه هي اسلام آباد المقصودة . وهكذا يسر الله لي زواجي وما هي إلا شهور ووافقت وازرة الداخلية على طلب الجماعة وأعطتني تأشيرة شغل. أما الذين حاولوا إغرائي فاسأل ولا حرج عن رداءة أحوالهم.

حسن عودة تحت المجهر
أعود الآن للحديث عن حسن عودة الذي كنت أشتغل معه في مجلة التقوى والذي أراني الله حوله مناما مزعجا. رأيته مرتديا لباسا شبيها بلباس السيد المسيح وكانت لحيته وشعره طويلين وما شد انتباهي هو سلسلة حديدية جد سميكة كانت حول عنقه إلى ركبته. كان فعلا مناما مزعجا، زرته وأخبرته كي يراجع نفسه وأعماله. ولكنه لم يبالي وقال أضغاث أحلام. ومما أكد صدق المنام أنني زرته بعد تحطم طائرة ضياء الحق وظهور تأييد الله للخليفة كي أحتفل معه بهذا التأييد الإلهي. زجرني وصاح في وجهي قائلا: هل أصبحت مثل هؤلاء الباكستانيين يستغلون حادثا لصالح أمانيهم. تعجبت من ردة فعله وقطعت علاقتي به.
كان لي صديق حميم يقيم معي في إسلام آباد اسمه عز الدين مستن وهو من جزر موريشيوس وبما أنه كان يتكلم الفرنسية مثلي كنا دائما نجلس ونتجاذب أطراف الحديث. وكان يزور حسن عودة في بيته باستمرار لأن ابنتا حسن عودة كانتا في نفس سن ابنتيه اللتان أخذتهما منه طليقته الإنجليزية. أذكر جيدا أنه جاءني ذات ليلة وقال لي: هنالك أمر خطير أريد التحدث لك عنه. وقال أن الحديث المكثف مع حسن عودة أدى به إلى وشك الكفر بعقيدتي الأحمدية واستشارني ماذا يجب عليه أن يفعل؟ فأجبته أن هذا الأمر لا يستحق استشارة أي شخص، عليك أن تذهب غدا وتخبر الخليفة. هذا ما فعل فعلا، إثره عين الخليفة لجنة مكونة من: الأستاذ محمد حلمي الشافعي والأستاذ بشير أحمد رفيق (الإمام السابق لمسجد الفضل) والأستاذ عبد الحميد عبد الرحمن (دبلوماسي سابق من جزر موريشيوس) لتنظر في أمر حسن عودة واستجوبت أشخاص كانت لديهم صلة بحسن عودة من ضمنهم أنا. وبعد الاستجوابات استخلصت اللجنة إلى أن إيمان حسن عودة لا يخول له أن يشغل أي منصب في الجماعة. وافق حضرة أمير المؤمنين على هذا القرار وطلب منه أن يغادر بريطانيا ويرجع إلى الكبابير. ولا أرى حاجة لذكر باقي التفاصيل بل سأطلب من هيئة تحرير الفضل أن تخصص لها مقالا منفردا.

الشغل في القسم الفرنسي
إلى جانب شغلي في مجلة التقوى شرفني الله بكتابة ردود حضرة أمير المؤمنين باللغة الفرنسية لفترة طويلة ولا زلت أذكر رد حضرته مُؤولا رؤيا أحد الأحمديين الأفارقة إذا قال له حضرته لقد شرفك الله كي تكون أول فرد من عائلتك سيدخل الجنة.. أسلوب بلاغي من الطراز العالي يبعث الفرحة في قلب صاحب المنام لا الرعب والخوف من الموت.
كما كنت أترجم بعض اللقاءات لحضرته مع الناطقين باللغة الفرنسية وما شد اهتمامي هو أن حضرته كان يسألني يا عبادة كيف تقول هذه الجملة وتلك باللغة الفرنسية. كنت أقولها لحضرته وأستغرب من فعله هذا. وأقول في نفسي: رجل في مقامه وسنه وطهره يتعلم مني أنا أحقر غلمانه. كنت أرى أن في فعله هذا رسالة لي.. فهمت تلك الرسالة أي تعلم يا رجل فلا حدود للتعلم. وهكذا تطورت معارفي الدينية وتعلمت اللغة الإنجليزية ومعارف الحاسوب.
وخلال ترجمة الأستاذ محمد حلمي الشافعي لإجابات حضرته عبر لقاء مع العرب كنت بدوري أترجم في قلبي ترجمة فورية لإجابات حضرته باللغة الفرنسية لأن البرنامج نفسه يُبث بعد يومين وكنت أترجمه للغة الفرنسية فكانت تلك فرصة ذهبية لي للتدرب. ولكن عندما يُترجم الأستاذ الحلمي للغة العربية كنت أتعجب للمعاني والأبعاد العديدة التي يتطرق إليها والتي لم تخطر ببالي حيث إنني ترجمت في قلبي الإجابة سابقا. فكان حضرة أمير المؤمنين يقرأ ملامح التعجب في وجهي ويقول: أنظرُ لوجه عبادة وأعرف مستوى ترجمة الأستاذ حلمي.

كلام الأولياء
بعد زواجي بسنتين حملت زوجتي فذهبنا إلى حضرته لكي يختار لنا اسما لمولودنا المنتظَر الذي لم نستفسر من الأطباء ذكرا كان أم أنثى. فكّر حضرته للحظات طويلة وأمعن النظر ثم قال: سـمِّه حسان، ثم قال: أتعرف من هو حسان؟.. حسان بن ثابت الذى قال البيت الشهير:
كنت السواد لناظري فعمي عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت فعليك كنت أحاذر
وما لفت انتباهي هو قراءة حضرته لكلمة "فَلْيَمُتْ" بصوت عال وأشار بأصبعه مؤكدا على هذا الأمر. في الحقيقة لم أولي اهتماما لهذه النقطة إذ كانت الفرحة تغمرني لأن حضرته تنبأ بمولود ذكر واختار له اسما مناسبا. وبعد بضعة أسابيع ذهبنا إلى الفحص وأخبرنا الدكتور أنه لا يسمع دقات قلب المولود، تبين إثرها أنه تُوفي داخل بطن أمه. حينها تذكرت ما أشار إليه حضرة أمير المؤمنين مؤكدا "فَلْيَمُتْ". حمدت الله على كل حال، ولم أتأثر كثيرا بحادثة الوفاة حيث أن الله أخبرني عنها عن طريق من اختاره خليفة الإمام المهدي عليه السلام.

كرامات طاهرة
من حسن حظي أن حضرته أدرجني ضمن الطلاب الذين كان يعلمهم اللغة الأردية من خلال الدروس التي يلقيها في استديو الفضائية الإسلامية الأحمدية. وأتذكر جيدا أنه أحضر مرة إناء فيه أكلة حلوة طبخها بنفسه، وطلب من امرأة مشرفة على الأطفال خلال البرنامج أن توزعها على الحضور صغارا وكبار وأن أكون أنا أول من يتحصل على نصيبه. وبما أن عدد الحضور كان كبيرا وضعت الأخت شيئا بسيطا في صحني، فأنَّبها حضرته قائلا: لا تكوني بخيلة واعطه المزيد. فوضعت مرة ثانية الشيء القليل – ولا لوم عليها إذ إن الكمية لم تكن كافية للجميع-. لم يُسر حضرته فطلب منها أن تعطيه الإناء كي يوزع بنفسه فوضع في صحني كمية وافية ثم وزع على جميع الحضور صغارا وكبارا بما فيهم رجل الكاميرا. وبما أن الكمية فعلا لم تكن كافية لنصف الحضور فكرت وتأملت طويلا ثم قلت لحضرته: إن ما رأيته يذكرني بواقعة الحليب التي مرَّ بها حضرة أبي هريرة. نظر إليَّ حضرته مبتسما ثم طأطأ رأسه. وقال: صدقت يا هذا.

سيد القوم خادمهم
خلال درس آخَر على الفضائية الأحمدية للغة الأردية أحضر حضرته قطع لحم مشوي وكنت أول من أُعطي قطعة ثم وزع الباقي على الرجال الآخرين. وما أن أكلتها وقف حضرته واتجه إليَّ وفي يده الشريفة صحنا فارغا وطلب مني أن أضع العظم في الصحن. لقد تمنيت حينها أن آكل العظم ولا أضعه في الصحن احتراما لمقامه الجليل وما أكنه في قلبي له من تبجيل. فعلا هذه هي قمة الكرم.. يطعمني أولا ثم يأتي ويأخذ مني البقايا. وها بأمير المؤمنين يؤكد: ضعه في الصحن، ضعه في الصحن.. فوضت أمري إلى الله ووضعته.

الواجب المقدس والتأييد الالهي
قبل وفاة الأستاذ محمد حلمي الشافعي بيومين سمعت صوتا عذبا وأنا شبه مستيقظ قال لي باللغة الإنجليزية:
You are going to replace Helmi Sb in the translation
"إنك ستعوض الأستاذ حلمي في الترجمة"
فزعت لما سمعت وعرفت أن أيامه معدودة وبعد يومين أُصيب بصدمة قلبية وهو ينتظر دوره للقاء حضرة أمير المؤمنين في مكتبه. كنت يومها معه وتأثرت كثيرا من المشهد. بعد حوالي أسبوع طلب مني حضرة أمير المؤمنين أن أشغل منصب المترجم في برنامج لقاء مع العرب. فبما أنني كنت تحت صدمة وفاة الأستاذ حلمي أمام عيناي اعتذرت لحضرته بحجة أنني منذ سنين طويلة أترجم خطبات حضرته وبرامج أخرى إلى الفرنسية ويصعب عليَّ بين عشية وضحاها أن أترجم إلى العربية. فعين حضرته الأخ منير عودة لهذه المهام. وبعد شهرين تقريبا اتصل بي سكرتير حضرته قائلا أن أمير المؤمنين يخبرك بأن منير عودة اضطر للرجوع إلى بلده وإذا لا تقم بالترجمة اليوم في برنامج لقاء مع العرب سننهي هذا البرنامج إلى الأبد. تأملت في كلام حضرته وتذكرت حكمة القائد الإسلامي طارق بن زياد حين قال لجيشه عند مضيق جبل طارق العدو أمامكم والبحر وراءكم ووضعهم أمام الأمر الواقع وهكذا كان النصر حليفهم. بنفس الحنكة القيادية والفراسة الإيمانية وضعني حضرة أمير المؤمنين في نفس الموقف. وهكذا حصل لي شرف الترجمة لسنين عديدة. بعد تسجيل بضعة حلقات زرت حضرته في مكتبه وأخبرته حول الصوت العذب الذي زف لي بشرى القيام بمهام الترجمة. نظر إليَّ حضرته نظرة ثاقبة وقال أنا على علم بذلك !!
لم تتوقف ثقة حضرته بي إلى هذا الحد بل إنه عينني في نفس الفترة رئيس تحرير مجلة التقوى في نوفمبر 1996 يا له من شرف عظيم. تلك المجلة التي كنت أصنفها منذ نشأتها ثم أشرف عليها في الطباعة والقص والإرسال إلى البريد وزد على ذلك لما تجتمع هيئة تحريرها وإدارتها كنت أصنع لهم الشاي. كل هذا العمل واسمي لم يكن في إدارتها ولا تحريرها. هكذا شاء قدر الله وجعلني رئيس تحريرها بعد عشر سنوات من صدورها. قررت أن أخفي اسمي اقتداءا بسنة سيدنا أحمد عليه السلام الذي عانى لأجل الإسلام وخدمه بكل إخلاص وكان لا يرغب في أن يُعرف بين الناس إلى أن أتاه أمر الله رغم رغبته: الآن يجب أن تُعان.. وهكذا أردت أن ألقن نفسي وغيري درسا حول حب الظهور والرئاسة فاخترت اسمًا صحفيا فيه كنيتي وبلدي أبو حمزة التونسي، أعجب حضرة أمير المؤمنين به ووافق عليه.

من أنا؟
أذكر جيدا أنه مرة وخلال آخر دقائق إحدى حلقات برنامج لقاء مع العرب قال لي حضرته بكل تواضع: لقد تركت لك مادة كافية لترجمتها ستغطي الدقائق المتبقية من البرنامج. فهل تسمح لي يا سيدي بمغادرة الاستوديو؟ لم أتمالك نفسي وانهمرت الدموع من عيناي وخانتني العبارات كي أقول لحضرته هل انقلبت الدنيا رأسا على عقب، منذ متى أصبحت أنا سيدا يا سيد الأسياد؟ ومنذ متى أسمح لكم يا من جُندت الملائكة لخدمته؟ طأطأت رأسي باكيا من أثر الرجة الروحية التي تلقيتها من حضرته. فابتسم وغادر وتركني كالمغشي عليه من أثر الاحترام الفائق الذى أبداه تجاهي.

كرامات طاهر
كنت أرافق حضرته خلال زياراته التفقدية لأفراد الجماعة في الدول الأوروبية كمترجم رسمي. وخلال زيارة إلى فرنسا عُقد خلالها ندوة للأسئلة والإجابات حضرها كثير من العرب المقيمين هناك. وكان مقررا أن تدوم الندوة لساعة ونصف، لكن كان هنالك كم هائل من الأسئلة حول تفاسير آيات عديدة من القرآن الكريم فامتد البرنامج إلى ما يزيد على ثلاث ساعات ونصف. كنت جالسا في ساحة المسجد أُترجم تارة بالعربية لأحد الضيوف إن لم يكن يعرف الفرنسية اللغة التي يُترجم إليها مستجدات الندوة. لفت انتباهي أحد الضيوف كان جالسا بجانبي حيث كان منتبها لجميع مجريات الندوة ولكنه لم يسأل أي سؤال. تبين لي في اليوم التالي أنه إمام لأحد المساجد في فرنسا وكرمه الله بحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب. وطُلب مني أن أرافقه خلال لقاءه مع حضرة أمير المؤمنين كي أترجم له. دخلت أولا مكتب حضرته ثم دخل هو بعدي. فما أن رأى وجهَ حضرته صرخ صُراخًا اقشعر له جلدي وانهطلت منه الدموع وازداد صدى صُراخه وإذ بحضرة أمير المؤمنين يفتح ذراعيه فهرول الإمام لمعانقه حضرته ولم يتمالك نفسه وهو يردد مررًا "والله إن علوم ومعارف القرآن معك". أكرم الله هذا الرجل البار وانضم إلى الجماعة حينها.

رجل دين وعلم
طلب مني مرة حضرة أمير المؤمنين أن أستقبل في مطار "هيثرو" بلندن بصحبة وكيل التبشير مفتي إحدى الدول العربية الذى طلب من الجماعة أن تهيئ له لقاء مع حضرة أمير المؤمنين. لاحظت عند لقائي به أنه رجل متواضع ويتحلى بأخلاق حميدة، فاستفسرت منه عن سر رغبته في لقاء حضرة أمير المؤمنين، خصوصا أن هذا الأمر قد يسبب له إشكالات مع سلطات بلده. أخبرني أنه بعد أن قرأ إحدى خُطب الجمعة لحضرته، أعجب بفحوى الخطبة إلى درجة جنونية، وقال: إنني لم أقرأ في حياتي قط خطبة جمعة وفَّق فيها الإمام بين الدين والتاريخ والعلم والسياسة، وهذا ما قام به إمامكم في خطبته، لذلك عقدت العزم على أن أقابل هذا العلامة النابغة في علوم الدين والدنيا.

رجل من الله
طلب منِّي مرة حضرة أمير المؤمنين أن أدرس أوضاع القسم الفرنسي بخصوص اقتناء أجهزة كمبيوتر. فجهزت تقريرا وذهبت لمقابلة حضرة أمير المؤمنين. وخلال دقائق انتظار دوري خارج مكتبه خطر ببالي أن أنصح حضرته بالزواج إذا مرّ على وفاة حرمه ما يزيد على سنتين. ثم قررت أن لا أفعل ذلك لأن في هذا الأمر إساءة الأدب. وبعد دقائق نادى عليَّ السكرتير الخاص وطلب مني أن أدخل للقاء حضرته. دخلت المكتب وألقيت السلام. كان حضرته واقفا - على غير عادته – لم يرد عليَّ السلام وقال لي غاضبا: لا أريد أن أتزوج من أي أحد، ثم زجرني قائلا: اجلس. وطلب من الأخ المسئول عن القسم الفرنسي أن يخبرني عن رفض حضرته لطلب الفتاة التي وهبت نفسها لحضرته. لقد أيقنت من خلال هذا الموقف العظيم أن الله هو فعلا الله الذى يختار الخليفة وبالتالي يقرر مستجدات حياته بكل حكمة ودقة. أما أن وغيرى فالحري أن لا نقلق على من اصطفاه رب العزة.

رؤيا مباركة
في شتاء سنة 1994 زارتني والدتي مع أختي الصغرى في لندن وأخبرتني منذ أول يوم أنها رأت في المنام أناس يرددون كلمة الشهادة بصوت جلالي وقد سمعت صوتا يقول لها: أنظري هنالك فذلك رسول الله. اقتربت من الموكب ورأت أن الرسول  كان جالسا ومرتديا اللباس الباكستاني التقليدي (سروال قميص) حاولت ثلاث مرات أن تنظر إلى وجهه الشريف ولكن في كل مرة كانت عيناها تنزل من قوة النور على وجه الرسول الكريم . بشرتها حينها أنها ستبايع وتنضم إلى الجماعة. وخلال اللقاء مع حضرة أمير المؤمنين ذكرت له هذا المنام. فقال أنا الذى رأيتني في المنام بما أنني ممثل للسلطة الروحية للرسول الكريم .... فأعطني يدك يا عبادة لنأخذ البيعة وهذا ما تم فعلا. ولدى مغادرتها مكتب الخليفة أخبرتني مباشرة أنها حاولت ثلاث مرات أن تنظر لوجه الخليفة وفي كل مرة كانت هنالك قوة قدسية تمنعها من ذلك لجلاء النور في وجه حضرته الطاهر. توفيت والدتي في عهد الخليفة الخامس أيده الله وصلى عليها الجنازة ويعد هذا الأمر من أهم الأحداث في حياتي.

ثلاثة لا اثنان
عُرف حضرة أمير المؤمنين بقوة ذاكرته فإذا سألك للمرة الأولى عن أفراد أسرتك يحفظ كل الأسماء. وخلال دروس اللغة الأردية سألني مرارا كم ابنا لك وكنت أردد اثنان حمزة وطلحة. وذات مرة سألني السؤال نفسه وكان في وجهه ابتسامة رقيقة ونظرة ثاقبة أجبته كالمعتاد اثنان. قال لي: لا، ثلاثة. قلت: لا، اثنان. وهكذا إلى المرة الثالثة فقال لي: لا، لك ثلاثة والثالثة هي بنت. فهمت عندها أن هذه بشارة بمولود جديد. قلت حينها: إن شاء الله، إن شاء الله. ولعجائب قدر الله لم تكن زوجتي حاملا حينها. وما هي إلا تسعة شهور حتى وضعت زوجتي بنتا اختار لها حضرته اسم مناهل.

حب منقطع النظير

في ربيع سنة 1999 سافرت إلى باكستان وعند الجمارك رأيت أحدا من كبار الضباط متجها إلي بسرعة ولما اقترب مني صافحني. تحيرت من أمره وسألته: من أين تعرفني؟ أجاب: كيف حضرة أمير المؤمنين. فبعد أن أخبرته أنه بخير وعافية. أخبرني أنه ابن عم إشفاق ملك صاحب أحد المسئولين في الفضائية. إن الشغف الذي أظهره من خلال استفساره على حضرته جعلني أحس منذ أول وهلة في بلد حضرته بالحب المنقطع النظير الذي يحظى به أمير المؤمنين بين أهليه.
ولم يتوقف الأمر إلى هذا الحد حيث إن الجماعة أبلت البلاء الحسن ونظمت لي بعض الزيارات لجماعات محلية فكنت عند وصولي أجد طابورًا طويلا من أبناء الجماعة في انتظاري من علية القوم وكبارهم.. كانوا ينظرون إلي بنظرة ملؤها الحب والوئام تلك النظرات لن أنساها قط إذ كان يحظى بها حضرة أمير المؤمنين فقط عند زيارته لبعض الدول الأوروبية. لقد رسخت في ذهني لأنني سافرت معه كثيرا. التفت مرارا إلى الوراء لأنني فعلا كنت أحس أن أمير المؤمنين خلفي وكل هذه النظرات كانت موجهة له. وفي كل مرة كان يخيب ظني فأنا اليوم الذي أحظى بها لا لشيء إلا لأن محبي أمير المؤمنين وعشاقه رأوا من خلالي حضرة أمير المؤمنين. إنه والله حب منقطع النظير لا تحدثه أموال الدنيا وخيراتها، إنها ميزة عظيمة أشهد بها للأحمديين الباكستانيين المخلصين لنظام الخلافة.

مشورة أم تدريب لأخذ القرار
في مناسبات عديدة تلقيت رسائل شفوية من حضرة أمير المؤمنين عبر سكرتيره الخاص يستشيرني فيها عن أمر ما وكنت أستغرب من ذلك لأن حضرته عُرف بصرامته في اتخاذ القرارات فلماذا كان يأخذ رأيي في أمور لا وزن لرأيي فيها. المهم كنت أدلي برأيي بكل إخلاص وفي مناسبات عديدة كان السكرتير الخاص يخبرني بعد أن أعطي رأيي ما شاء الله هذا بالضبط ما يريد أن يسمعه حضرته، إذ كان حضرته يستشير أكثر من شخص حول نفس الموضوع. فهمت بعد فترة طويلة أن هذه الاستشارات هي في الحقيقة تدريب لي.

ثناء تاريخي
لقد حصل لي شرف ترجمة ما يزيد عن 240 حلقة من برنامج لقاء العرب وخلال إحدى الحلقات الأخيرة بعد أن انتهيت من الترجمة قال حضرة أمير المؤمنين ما يلي:
إنني لم أنتبه لطول الإجابة التي قدمتها فقد أخذت مني بالضبط نصف ساعة. وقد استمتعت بترجمتك التي لم تفوت فيها صغيرة ولا كبيرة وأخذت بدورك أيضا نصف ساعة.. بارك الله فيك أدعو لك بطول العمر لأنه ليس لدينا من يعوضك. أنت عبقري أنت فريد. أبعد الله عنك عيون الحساد. لم يترجم شخص على وجه الأرض كلامي مثلما ترجمت أنت.
سالت دموعي لسماع ثنائه على مجهود متواضع قدمته.. ولا زلت تحت تأثير الصدمة لأنني لم أتوقع أي ثناء وإذا بأمير المؤمنين يأمرني أن أترجم ما قاله إلى اللغة العربية كي يسمع الإخوة العرب ما قاله. فكانت تلك من أصعب لحظات حياتي. فكيف يمكن للمرء أن يمدح نفسه!!

إذا مات عالِمٌ ماتَ معه عَالَمٌ
في الختام أود أن أقِّر بأن الكلمات تعجز عن وصف مآثره الحميدة وكراماته الفريدة، وتقف لغات الدنيا قاطبة عاجزة عن إيجاد تعابير تفيه حقه. فالحديث عن إمام الأمة ممثل السلطة الروحية لسيدنا محمد المصطفى  لأمرٌ جليل القدر. لقد انصبغ حضرته في حركاته وسكناته بكتاب الله وسنة رسوله الكريم أيما انصباغ وقاد الجموع يربيها ويهذب طبائعها بهما، حيث كان حضرته مَجْمَعُ الخصال القرآنية التي ذابت في حبُّ المصطفى  وفاء وشِيَما، فعكس على الدنيا بإذن الله أنوار محمد المصطفى  الذى كلما ذكر اسمه الطاهر تتغير نبرات صوته حزنا وتألما وتفيض عيناه من الدمع.
ولا يسعنى في هذا المقام إلا أن أذكر تلك الكلمات الخالدة التي ودعني بها حضرته قرابة سنة قبل التحاقه بالرفيق الأعلى حيث نظر إلىَّ نظرة ثاقبة في أحد برامج لقاء مع العرب قائلا: "إذا مات عالِمٌ ماتَ معه عَالَمٌ". أيقنت لحظتها أن حضرته يدعوني بأن أدلو بدلوي وأنهل من المعارف التي وهبه الله إياها قبل أن يأتي أجله.
عفوَا يا سيدي لقد خانتني الكلمات لتبيان ما رأيته من كراماتكم خلال السنين الطويلة التي قضيتها في جواركم فأنا على يقين أن ما ذكرته في هذه السطور ما هو إلا قبس من إشعاع الأنوار التي عكستموها على الدنيا. ليرحمك الله رحمات لا مقطوعة وليجعلك من سكان جنته الأخيار المقربين.


 

خطب الجمعة الأخيرة