loader
 

جريمة الإرهابيين القَتَلة .. أم جريمة الحكومة الباكستانية؟!

في صبيحة يوم الجمعة 7/10/2005 الموافق للرابع من رمضان المبارك لعام 1426للهجرة أقدم ثلاثة من القتلة على الهجوم على مسجد صغير للجماعة الإسلامية الأحمدية في شرق باكستان في منطقة مندي بهاء الدين بقرية اسمها "مونغ رسول"، وأمطروا المصلين بوابل من الرصاص، مما أدى إلى استشهاد ثمانية أشخاص وجرح عشرين آخرين. ولقد كان من بين الضحايا عدد من الأطفال والشيوخ.

لا يمكن القول أن الحادث هو حادث معزول أو محدود الخطر. فهو نتيجة طبيعة لما قامت وما تقوم به الحكومة الباكستانية من أعمال ظالمة تجاه الجماعة الإسلامية الأحمدية منذ ما يزيد على ثلاثة عقود. فقد أعلن البرلمان الباكستاني كفر الجماعة الإسلامية الأحمدية وخروجها من ملة الإسلام في قرار غريب فريد من نوعه في تاريخ برلمانات العالم. كما كان الدكتاتور ضياء الحق قد أصدر قانونا هستيريا يمنع الأحمديين من أن يعلنوا أنهم مسلمون أو أن يسموا مساجدهم بالمساجد أو أن يلقوا السلام، لأن كل ما سبق هو مما يختص بالمسلمين ولا يجوز للأحمديين أن يقوموا به!

كانت تلك القرارات مقدمة لكثير من أعمال القتل والتدمير والاضطهاد التي لحقت بالجماعة على مدى سنوات عديدة. وقد عملت الحكومة الباكستانية في زمن ضياء الحق على تضييق الخناق على الجماعة في زمن الخليفة الرابع - رحمه الله - مما اضطره إلى مغادرة بلاده والهجرة إلى بريطانيا. وقد استمرت في تلك الفترة أعمال الاضطهاد للأحمديين وعانى المسلمون الأحمديون في باكستان أشد المعاناة ومازالوا يعانون.

لقد أعقب فترة الاضطهاد الشديدة فترة انتشار عظيم للجماعة في العالم، مما زاد من غيظ الحكومة الباكستانية التي كانت تنظر إلى الشأن الأحمدي وكأنه شأن باكستاني داخلي تريد أن تحتويه. فواصلت معركتها خارج البلاد بتحريض بعض الدول على التضييق على الأحمديين فيها إلا أن جهودها باءت بالفشل في نهاية المطاف.

أما في الفترة الأخيرة، فقد تصاعدت حدة التحريض والتهديد للجماعة الإسلامية الأحمدية. فقد سمحت الحكومة في نهاية شهر أيلول الماضي بعقد مؤتمرين للمشايخ المتعصبين المناهضين للأحمدية في ربوة التي هي مركز الجماعة في باكستان. وقد أعلن المناهضون كفر الجماعة ووجوب قتل أفرادها علنا في خطاباتهم. وقد كان منهم أعضاء في الجمعية الوطنية وأعضاء من الحكومات المحلية. كما سمحت الحكومة بإصدار النشرات والصحف التي تحرض على قتل الأحمديين بصفتهم مرتدين. وفي نفس الوقت فقد قامت الحكومة بإغلاق ومنع بعض الصحف الأحمدية واعتقال هيئات تحريرها والقائمين عليها بحجة مخالفة قانون مناهض الأحمدية السيئ السمعة.

وكنتيجة طبيعية لتلك الإجراءات والأعمال التي قامت بها الحكومة وسمحت بها مؤخرا كان ذلك الحادث الأليم. فقد أفقنا في ذلك اليوم المشئوم على تلك الفاجعة الأليمة، ولكن مما زاد في ألمنا ما كان من تعاطي الإعلام العربي مع هذه الجريمة وأسلوبه في نقلها. فقد امتد نفوذ حلفاء هؤلاء المشايخ الباكستانيين المتعصبين إلى ذلك الإعلام وحاول العبث بالخبر المؤلم وبحقيقة انتماء الجماعة إلى الإسلام.

فقد نقل الخبر أول الأمر في معظم القنوات الفضائية على أنه هجوم على "معبد" أو "مركز ديني" للطائفة "القاديانية"! فبادرنا إلى الاتصال عن طريق الهاتف والبريد الإلكتروني لمحاولة تصحيح الخطأ.

قناة الجزيرة فقد تميزت كعادتها عن غيرها من القنوات بالسبق وبالوصول إلى قلب الحدث. إلا أن مراسلها قد قام بتقديم تقرير مشبع بالأكاذيب والافتراءات وعدم الدقة، حيث كان مما قاله في باب التعريف على الجماعة أن للجماعة "معبدا" كبيرا في مدينة "ربوة" وهو على غرار الحرم المكي.. وغير ذلك من الافتراءات الساذجة. وبعد الاتصال بهم بطرق شتى تعنت القائمون على الأخبار وأصروا على وصف مسجد الجماعة الإسلامية الأحمدية بأنه معبد وليس مسجدا.

قمتُ بالاتصال شخصيا بقناة الجزيرة كجزء من المجهود الجماعي الذي بادرنا به مع مجموعة من الإخوة منذ البداية، فرد علي أولا شخص يبدو أنه منغلق وحاقد وقال: "إنكم لستم بمسلمين وفقا للدستور وقرار البرلمان الباكستاني وأنتم جماعة محظورة في باكستان! ولا يجوز أن يسمى معبدكم مسجدا!"... غضبت بسبب هذا الكلام وأجبته أن الجزيرة كانت السباقة في استضافة الإسرائيليين وإعطائهم نافذة يطلون فيها على الجمهور العربي، فكيف لم تراعِ الجزيرة الحظر الذي يفرضه معظم العالم الإسلامي على إسرائيل ويتمسكون بقرار الحكومة الباكستانية؟.. ويبدو أن هذا المتعصب لم يكن قادرا على السماع أو التفاهم فحولني إلى أحد زملائه الذي واصلت الحديث معه بعد ذلك.

كان الشخص الثاني مهذبا وأكثر مهنية وحيادا على ما يبدو، وقال إن الجزيرة لا تتخذ موقفا ضدنا أو ضد أي كان وإنما تتعاطى مع الخبر بطريقة إخبارية محايدة إلى حد كبير.. وأخبرني أن هنالك تقريرا مفصلا يعدُّ في تلك اللحظات ينقل وجهة النظر الأحمدية وما يقابلها. وعندما طالبته بتغيير المعبد إلى مسجد قال إن هنالك جدلا دائرا منذ الصباح حول هذه النقطة في دائرة الأخبار.. وأخبرني أن مراسلهم قد أخبرهم أن المكان لا يبدو كمسجد حيث لا منبرَ ولا محرابَ ولا مئذنة، فلم يستطع التأكد من كونه مسجدا أم غير ذلك! فقلت له أن هذا الرجل كاذب وهو قد تصرف بالخبر لينقل وجهة نظره الشخصية التي لا تختلف عن وجهة النظر الرسمية الباكستانية بل ووجهة نظر من يقفون وراء القتلة. وأخبرني أنهم سيحولون المعبد مؤقتا إلى "دار للعبادة" وأن التقرير سيظهر بعد قليل، ووعدني خيرا، فشكرته وذهبت كي أشاهد التقرير.

وما إن ظهر التقرير حتى قام المراسل الأول بتقديم مقدمة ووضع احتمالات لسبب الهجوم: منها إحراج برويز مشرف ومنها دور القاعدة ومنها زواج فتاة سنية من شاب أحمدي! وذكر أمورا مشوهة حول فكر الجماعة من باب التعريف بها، ثم انتقل إلى المراسل الآخر الذي هو في قلب الحدث لينقل الصور وبعض المقابلات.

كان المسجد الجريح مسجدا بسيطا جدا ولكنه نابض بروح المسجد وهيئته. وكان المؤثر جدا منظر الحصائر البسيطة المصنوعة من القش وقد تضرجت بدماء الشهداء والجرحى. فكان بارزا للعيان أن المراسل الذي لم يرَ في هذا المسجد أنه مسجد أن كان ينظر بقلب زائغ وعيون حاقدة... تكلّم أحد الشباب الأحمديين الذي كان شاهد عيان وصرح أنهم كانوا يؤدون صلاة الفجر عندما دخل عليهم المعتدون وهم في الركعة الأولى. يبدو أن المراسل لم يسمع "صلاة الفجر" ولم يسمع "الركعة الأولى" عندما حكم بأن المسجد يبدو كمعبد وليس مسجدا، وعندما أراد أن يوحي أنهم كانوا يقومون بطقوس خاصة وليس صلاة إسلامية!

وظهر مشهد للشهداء والجرحى والنساء الثكلى ثم ظهر شيخ أحمدي قال إنه لا يوجد عداوات بين الأحمديين وبين أي أحد في المحيط أو في الدنيا.

قابل المراسل بعد ذلك قائد الشرطة في المنطقة الذي وضع احتمالا أن يكون الأمر متعلقا ببعض اللصوص الذين خرجوا من السجن مؤخرا والذين كانوا على عداوة مع أحد الأحمديين! وكأنه يمهد لتمييع الجريمة والتقليل من أهميتها.

المهم أن الجزيرة مشكورة قد عدلت من الخبر بالتدريج من "معبد" إلى "دار عبادة" إلى حذف دار العبادة وذكر الخبر على أنه هجوم على أتباع الطائفة الأحمدية إلى ذكر الجماعة باسمها في نهاية المطاف.

Aljazeera
الخبر كما نشر في موقع الجزيرة على شبكة الإنترنت.


ويجدر بنا في النهاية أن نخلص إلى نتيجة مهمة.. وهي أن قناة الجزيرة هي قناة تمتاز بقدر كبير من الحرية والحياد على مستوى الإدارة، أما ما قد يظهر من انحياز وانحراف وعدم حياد فهو من سوء استخدام المراسلين والمعدين لنشرات الأخبار لما في أيديهم من حرية، فهم يقومون بصياغة وجهات نظرهم الخاصة عندما يتمكنون من ذلك. لقد كانت الصور المرافقة للتقرير الذي حاول المراسل تشويهه، إضافة إلى الاتصالات التي قام بها أبناء الجماعة بطرق مختلفة، كافية لكي تقنع الإدارة بأن التمسك بوصف المسجد بالمعبد هو أمر غير عادل، فعملت على التعديل رغم أنف المعارضين من المتعصبين في القناة، والذي وإن لم يكن على المستوى المطلوب، إلا أنه يسجل لها كقناة مهنية ويوجب علينا تقديم الشكر لها.

المهم أننا في آخر النهار قد شعرنا أن العالم كله يقف ضدنا.. كما أن الإعلام، بدل أن يستنكر تلك الجريمة النكراء وينظر إليها نظرة إنسانية محضة على الأقل، لعبت به الأهواء وامتدت أيدي المجرمين من خلاله كي تذبح الضحايا وتذبحنا مرة أخرى. لقد كانت القلوب التي يعتصرها الألم ضارعة إلى الله تعالى تطلب النصرة في ظل هذا الغم الشديد الذي أصابنا. فأفقنا في الصباح على أخبار أخرى من باكستان.. وإذا بنفس المراسليْن ينقلان أنباء زلزال عنيف هز شمال باكستان وأحدث دمارا هائلا كما ضرب العاصمة إسلام أباد.. وغيرها من المدن الباكستانية فشعرنا بالأسى للضحايا الأبرياء داعين الله تعالى أن يرحم أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم بوجه الكريم ويهديهم إلى الصواب، آمين.


 

خطب الجمعة الأخيرة