loader
 

الحقيقة الثابتة: [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]

بسم الله الرحمن الرحيم

 

"إن معنى مكر الله هو أن يغلب تخطيطُ الله في نهاية المطاف". (حضرة المسيح الموعود u)

 

في مضمار الحياة، يظنّ الإنسان أن ذكاءه حصنٌ حصين، وأن دهاءه درعٌ متين، وأن بالمكر والخداع تُنال المقاصد وتُحقَّق المآرب. لكنه يجهل أن فوق تدبيره تدبيرًا، وفوق مكيدته سلطانًا، وأن هناك عينًا لا تنام، وقوةً لا تُضام، يدبّر بها الله أمر الأنام، ويضع كل شيءٍ في موضعه بإحكام، فيسقط الظالم ولو شاد البنيان، وينتصر المظلوم ولو تكاثرت عليه المحن والهوان. كم من متجبّرٍ ظنّ أن الدنيا قد دانت له، فزُلزل عرشه في لحظةٍ فصار في طيّ النسيان! وكم من مفسدٍ تفنّن في حبك المؤامرات، فانقلب مكره عليه، فكان أوّل من أهلكه الخسران! وكم من خائنٍ غرس سهام الغدر في ظهور الأبرياء، فارتدّ سهمه إلى قلبه، فذاق وبال غدره والهوان! تلك هي سنّة الله في خلقه، عدلٌ نافذٌ لا يحابي ظالما ولا يناصر الطغيان، وحكمةٌ تتجلّى في أدقّ التفاصيل، ليوقن الناس أنّ الحقّ ثابتٌ كالرّكن الشامخ في العمران، وأنّ الباطل زائلٌ كزبدٍ قد محاه الموج في لمح البصر والعيان!

إننا في واقعنا نرى هذه السنّة تتكرّر، فكم من مظلومٍ ظنّ أنّه قد هُزم، فإذا بحرمانه كان له التمكين والأمان! وكم من غشّاشٍ توهّم أنّه نجا بحيلته، فإذا بها تنقلب وبالًا عليه، فيسقط في وادي الهوان! وكم من كاذبٍ نشر الأباطيل، فاستبشر بظنّه أنّه انتصر، حتى بزغ فجر الحقيقة، فصار ذكره في دروب النسيان! فالمؤمن الواثق بربه لا يخشى مكر الخوّان، ولا يرهب كيد الطغيان، فقد علم أنّ فوق كل تدبيرٍ تدبيرًا، وفوق كل مكرٍ مكرًا، فلا يخذل الله عبدًا صدوقًا، ولا يرفع من عاش في دروب البهتان، وأعظم التدابير تدبير الله، الحكم العدل، الذي يسمع أنين المستضعفين، ويمحو آثار الظالمين، ويجعلهم عبرةً للأمم والزمان، كما قال في كتابه القرآن، وعدًا حقًّا لا ريب فيه، يجري على مرّ الأزمان: ]وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[.[1] يقول حضرة المسيح الموعود u في تفسير هذه الآية: "فأحيانا نرى أن المكار والشرير الذي لا يرتدع عن مكره يفرح نتيجة ظهور بعض الأسباب ويزعم أنه سيسحق المظلوم بظلمه البالغ الغاية بسبب بعض الأسباب التي تيسرت له. ولكن الله تعالى يهلك الظالم نفسه بالأسباب نفسها. وإنه لمكر الله الذي لا يُطلع الشرير على مغبة تلك الأعمال ويُنشئ في قلبه فكرة أن في المكر نجاحه. وليس لأحد أن ينكر أن هناك آلافا من أعمال الله الملحوظة في العالم أنه يعاقب بمكره الحسن والعادل شريرا يؤذي الأبرياء بمكره السيئ".[2]

 

أمثلة من حياة الأنبياء عليهم السلام

في حياة الأنبياء عليهم السلام، تجلّى بوضوح معنى قوله تعالى: ]وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[. مكر قوم نوح u بالسخرية منه وتكذيبه حين دعاهم إلى عبادة الله U، ومكر اللَّهُ U بأن أغرقهم بالطوفان الجارف ونجّى نوحًا والمؤمنين معه. مكر نمرود وأتباعه بإلقاء إبراهيم u في النار لينالوا منه، ومكر اللَّهُ بأن جعل النار بردًا وسلامًا عليه، فنجا بأمر الله U. مكر إخوة يوسف u حين ألقوه في البئر ليبعدوه عن حب أبيهم، ومكر اللَّهُ بأن جعله ينتقل من ظلمات البئر إلى عز مصر، ليصبح حاكمًا عظيمًا، وفي النهاية، اضطر إخوته إلى التوبة والاعتراف بخطئهم. مكر فرعون وجنوده بمحاولة قتل موسى u واستعباد بني إسرائيل، ومكر اللَّهُ بأن أغرق فرعون وجنوده في البحر، ومنح بني إسرائيل الحرية والخلاص. مكر اليهود بمحاولة قتل عيسى u وصلبه، ولكن مكر الله كان أعظم، إذ نجاه من الصليب، وحال بينهم وبين تحقيق مكيدتهم. مكر قريش بمحاولتهم قتل حضرة محمد مصطفى e في دار الندوة وسعيهم لإيقاف دعوته، ومكر اللَّهُ بأن نجّاه من مكيدتهم وفتح له مكة ومنحه النصر والتمكين. كل هذه الوقائع تشهد بأن تدبير الله سبحانه هو الأعلى والأقوى، وأنه ينصر أنبياءه ويحفظهم من كيد أعدائهم مهما اشتدت مؤامراتهم. حقًّا، لقد تحقّق وعد الله U مرارًا: ]وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[.

 

مكرُ الله تعالى في حياة الصحابة الكرام y

في حقبة مليئة بالظلم والطغيان، سعى كفار مكة بكل مكرهم إلى إطفاء نور الإيمان في قلوب الصحابة الكرام رضوان الله عليهم. لجأوا إلى أساليب بشعة في إيذائهم وتعذيبهم، معتقدين أنهم قادرون على كسر إرادتهم. لكن مكر الله كان أعظم، فجعل من صبرهم وثباتهم نورًا يهتدي به المؤمنون عبر العصور. وهكذا، ارتفعت مكانتهم في الدنيا والآخرة. من بين هؤلاء الصحابة، كان بلال بن رباح t. وكان من السابقين إلى الإسلام، وممن يُعذَّب في اللَّه فيصبر على العذاب، وكان أبو جهل يبطحه على وجهه في الشمس، ويضع الرحا عليه حتى تصهره الشمس، ويقول: اكفر برب محمد e، فيقولأحد، أحد، فاجتاز به ورقة بن نوفل، وهو يعذب ويقول: أحد، أحد، فقال: يا بلال، أحد أحد، واللَّهِ لئن متَّ على هذا لأتخذن قبرك حنانا.[3]. فكان مكر الله بأن ثبّت قلب بلال على الإيمان، وجعله رمزًا خالدًا للصبر والثبات، ورفع شأنه ليصبح مؤذن رسول الله e. مكر أعداء الإسلام بحرق الصحابي خباب بن الأرت t بالحديد الساخن. كما ذُكر في أسد الغابة: "إن خبّابا صبر ولم يعط الكفار ما سألوا، فجعلوا يلزقون ظهره بالرّضف، حتى ذهب لحم مَتنه".[4]. ومكر الله بأن أعطاه القوة والصبر، فبقي ثابتًا على إيمانه، وأصبح من أعظم الأمثلة على الشجاعة والتضحية في سبيل الله. مكر المشركون في غزوتي أحد والخندق بخطط مدروسة لإلحاق الهزيمة بالمسلمين والقضاء عليهم، ومكر الله بأن جمع المسلمين على قلب واحد، وأرسل الرياح على الأعداء في الخندق، ففشلت خططهم وانهزموا، وحقق المسلمون النصر بإذن الله. هذه الوقائع جميعها تثبت حقيقة واضحة: مهما بلغ مكر الأعداء شدته، فإن تدبير الله U هو الأعلى والأقوى. بل إنه يحوّل مكايدهم إلى دروس وعبر للناظرين، كما قال تعالى: ]وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[.

 

مكر الله تعالى في حياة المسيح الموعود u

في زمن المسيح الموعود u، تجلت معاني قوله تعالى: ]وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[ في مواجهة الأعداء الذين سعوا بكل الوسائل لإيذائه وتشويه دعوته. مكر العلماء مثل المولوي محمد حسين البطالوي بتكفيره وإطلاق الفتاوى ضده، محاولين عزل دعوته عن المجتمع وإثارة الناس عليه. ومكر الله بأن جعل هذه الفتاوى سببًا في لفت الانتباه إلى دعوته، مما دفع الكثيرين إلى البحث والتعرف على رسالته. مكر أعداؤه مثل ليكهرام الذي تعدى حدوده في الإساءة للإسلام وشخص المسيح الموعود u، متوعدًا ومستهزئًا. ومكر الله بأن جعل نبوءة المسيح الموعود u بشأن ليكهرام تتحقق بدقة مذهلة، فكانت نهايته عبرةً للجميع ودليلًا قويًا على صدق المسيح الموعود u. مكروا بتقديم شكاوى كاذبة ورفع قضايا قانونية ضده، مثل قضية كرم الدين الشهيرة، التي كانت تهدف إلى إضعاف موقفه وإظهار ضعفه أمام العامة. ومكر الله بأن أظهر براءته في المحاكم مرارًا وتكرارًا، مما زاد من احترامه ومصداقيته لدى الناس.كما أن بعض أعدائه حاولوا التحريض ضد الجماعة ودعوتها لدى السلطات الاستعمارية البريطانية في الهند، متهمين المسيح الموعود u بأنه يشكل تهديدًا للنظام العام. ومكر الله بأن أبطل كل ادعاءاتهم وكشف أنهم منافقون يبطنون غير ما يظهرون، وهم الذين يمكن أن يشكلوا تهديدا للنظام العام. كل هذه المحاولات المتكررة للنيل من المسيح الموعود u كانت بظنهم وسائل للقضاء على دعوته، لكن تدبير الله U كان دائمًا الأسمى والأقوى، حيث حوّل مكايدهم إلى أدلة دامغة على صدقه ورفعة مكانته، وأثبت مرارًا: ]وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[

 

مكر الله في مواجهة مكايد الأعداء: تاريخ الجماعة الأحمدية نموذجًا

منذ نشأتها، مكر أعداء الجماعة الأحمدية بمحاولات مستميتة للقضاء عليها. بدأت هذه المكايد بمعارضة شديدة للمسيح الموعود u، حيث مكروا بإطلاق حملات تكفير وتشويه وتحريض ضده وضد أتباعه، لكن مكر الله بأن حوّل هذه المحن إلى فرص للتقدم والانتشار. بفضل تدبير الله U، استطاعت الجماعة الأحمدية أن تصمد أمام هذه التحديات، وأن تخطو خطوات ثابتة نحو تحقيق رسالتها العالمية. بعد استقلال باكستان عام 1947، بدأ الأعداء في تدبير المكايد ضد الجماعة. وفي عام 1974، أصدروا تعديلًا دستوريًا صنّف الجماعة كأقلية غير مسلمة. فتح هذا التعديل الباب أمام مظالم ممنهجة شملت التحريض العلني، تدمير الممتلكات، والاعتداء على الأرواح. ومع ذلك، مكر الله بأن منح الجماعة الحكمة والصبر، فاستمرت في أداء رسالتها، وجذبت انتباه العالم إلى تعاليمها السامية. في عام 1984، مكروا بإصدار مرسوم  الذي جرّم التعبير العلني عن عقيدة الأحمديين وفرض قيودًا صارمة على شعائرهم. كان الهدف إضعاف الجماعة وإخماد صوتها، لكن مكر الله بأن جعل من هذا الظلم نقطة تحول تاريخية، فاضطر حضرة الخليفة الرابع رحمه الله إلى الهجرة إلى لندن، فكانت هذه الهجرة  بداية لمرحلة جديدة من الحرية والعمل العالمي. بعد استقرار الخلافة في لندن، فتح الله U أمام الجماعة آفاقًا جديدة. فأصبحت المراكز الأحمدية منارات دعوية تنشر نور الإسلام.كما أُطلقت قناة MTA، التي نقلت رسالة الإسلام الحقيقي إلى ملايين الناس في مختلف القارات، وجعلت الأحمديين في كل مكان يشاهدون الخليفة ويستمعون إلى خطبه وخطاباته وتوجيهاته مباشرة. كانت الهجرة التي أرادها الأعداء كيدًا للجماعة، أصبحت سببًا في انتشارها بشكل أوسع. خلال فترة خلافة حضرة الخليفة الرابع رحمه الله (1982-2003) مكرت الحكومات وقوى المعارضة بفرض قيودٍ مشددة على نشاط الجماعة، خصوصًا في باكستان. لكن مكر الله بأن أعطى الجماعة الصبر والثبات، فاستطاعت أن تعيد تنظيم نفسها، وأطلقت مشروعات عالمية شملت بناء المساجد، إنشاء المراكز الدعوية، وتوسيع العمل الخيري. في عام 2003، تولّى حضرة الخليفة الخامس أيده الله بنصره العزيز منصب الخلافة. حينها، حاولت بعض القوى العالمية والمحلية عرقلة نمو الجماعة. لكن تدبير الله U كان أعظم، فجعل هذه الفترة من أنجح فترات الجماعة. أُنشئت مئات المساجد والمراكز، وتُرجم القرآن الكريم إلى لغات جديدة، وأُطلقت مبادرات خيرية وتعليمية، وشهدت الجماعة انتشارًا عالميًا غير مسبوق، بفضل توجيهات الخلافة. كل هذه المحطات التاريخية تثبت حقيقة راسخة: مكر الأعداء، مهما اشتد، لا يمكن أن يغلب تدبير الله U. فهو الأعلى والأقوى، ويحوّل مكايدهم إلى أسباب لنصر الجماعة وازدهارها.

 

 

الخاتمة: مكر الله يفوق مكايد البشر

توضح هذه الأمثلة أن الإنسان قد ينجح بمكره وحيله في إلحاق أضرار مؤقتة، بل قد يظن نفسه منتصرًا. لكن في النهاية، لا شيء يتفوق على تدبير الله U، فهو الغالب على جميع المخططات البشرية مهما بلغت دقتها. مهما حاول الإنسان بخداعه، فإن حكمة الله وقدرته تفوق كل شيء. تتجلى هذه الحقيقة بشكل رائع في الآية الكريمة التي تؤكد تفوق تدبير الله U على مكر البشر: ]وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[.

أختتم هذا المقال بكلمات حضرة المسيح الموعود u، حيث قال: "إن معنى مكر الله هو أن يغلب تخطيطُ الله في نهاية المطاف على مخططات الإنسان الدقيقة فيفشلَ الإنسان. وإن كان أحد لا يقبل هذه الفلسفة من كتاب الله فإن نظيرتها موجودة وتلاحَظ آثارها في الدنيا أيضا. كيف يقوم السارق بمكر دقيق ويقوم بعمله ويحاول حماية نفسه ولكن مكر الحكومة الأدق الذي وضعته الحكومة للقبض على السارقين يكون غالبًا في نهاية المطاف، فكيف يمكن ألا يغلب الله تعالى؟".[5]

.........

1. (آل عمران 55)

2. (ينبوع المعرفة، الخزائن الروحانية، ج 23، ص 200)

3. (أسد الغابة في معرفة الصحابة، ص 1، ص 415، ط 2002، دار الكتب العلمية). الحنان: الرحمة والعطف. أي: لأجعلن قبرك موضع حنان، أي مظنة من رحمة اللَّه تعالى، فأتمسح به متبركا كما يتمسح بقبور الصالحين.

4. (أسد الغابة في معرفة الصحابة، ص 2، ص 147، ط 2002، دار الكتب العلمية). الرضف: حجارة محماة على النار.

5. (البدر، ج 3، رقم 18-19، عدد 8-16/5/1904م ص 3)

  


زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.
 

خطب الجمعة الأخيرة