
بسم الله الرحمن الرحيم
رمضان - ضيف أيام معدودات
استقبال ضيف
لا بد أنك جربت بنفسك، أو على الأقل لاحظت، أنه عندما يأتي إلى بيت أحدهم ضيف غير مرغوب فيه، فإن صاحب المنزل يحاول بشتى الطرق أن يمنع وصوله، وإن لم يكن ذلك ممكنًا، فإنه يبدأ بالتفكير في كيفية التخلص منه بأسرع وقت. وحتى لو اضطر إلى استقباله مُرغمًا، فإنه يتمنى رحيله في أقرب وقت ليعود إلى راحته وسكينته. وبالرغم من أنه قد يُظهر حسن الضيافة بسبب العُرف أو امتثالًا لأوامر الله ورسوله، إلا أن قلبه يظل غير مرتاح حتى يغادر الضيف.
أما إذا كان الضيف محبوبًا وعزيزًا، فإن الفرحة بمجيئه تكون ظاهرة. يبدأ الشخص بالاستعداد له قبل وصوله، فينظف الطريق، ويرتب بيته، ويتزين بأفضل الملابس، ويضع العطر، ويُعد أفضل المأكولات لضيافته. وعندما يصل، يستقبله بفرح وسرور، ويبذل كل جهده لجعله مرتاحًا، محاولًا عدم ارتكاب أي تصرف قد يزعجه. وعندما يحين وقت رحيله، يتمنى لو يبقى لبعض الوقت الإضافي، ويرافقه لمسافة طويلة مودعًا إياه، راغبًا في المزيد من الوقت بصحبته.
رمضان ضيف كريم
هكذا هو شهر رمضان، الذي يأتي كضيف عزيز لأيام معدودات. فإن كنت تحب هذا الضيف، فستستعد له كما تستعد لأي شخص عزيز. وإن لم يكن محبوبًا لديك، فستشعر بثقله ومشقته.
بعض الناس يتأوهون عند قدوم رمضان قائلين: "رمضان قادم! وعلينا أن نصوم الآن، سيكون الأمر صعبًا!". وبعضهم يبحث عن أعذار لتجنب الصيام، ويتهربون منه بذرائع واهية. وعندما ينتهي رمضان، يشعرون بسعادة غامرة لأنهم "تحرروا" من قيوده، حتى لو كانوا في الظاهر ملتزمين به بسبب ضغط المجتمع.
لكن هناك من يعتبر رمضان ضيفا محبوبا عزيزا، فيستقبلونه بفرح وسرور، مترقبين قدومه، راغبين في اغتنام فرصة التقرب من الله. ينتظرونه ليل نهار بفارغ الصبر، راغبين في قيام الليل، وتلاوة القرآن، والصدقات، والإكثار من الدعاء والاستغفار. إنهم يرون رمضان كنافذة تفتح لهم فرصة المغفرة والرحمة.
كيف نستقبل هذا الضيف؟
تقدم لنا سيرة النبي r نموذجًا رائعًا في كيفية استقبال رمضان. فهو قدوتنا في جميع جوانب الحياة، ومنها الاستعداد لاستقبال هذا الشهر الكريم. تعالوا نرى كيف كان النبي r يستقبل هذا الضيف الكريم؟
بما أن رمضان يتطلب الصيام لمدة تسعة وعشرين أو ثلاثين يومًا متتالية، فإن من لم يعتد على الصيام قد يواجه صعوبة في التكيف معه فجأة. ولكن إذا صام بعض الأيام بشكل متقطع قبل بداية رمضان، فلن يصبح صيام رمضان أسهل له من الناحية الجسدية فحسب، بل سيكون أيضًا مستعدًّا روحيًّا لاستقبال رمضان. ومع أن النبي r كان يصوم أيامًا نافلةً في كل شهر بشكل منتظم، بما في ذلك صيام الاثنين أو الخميس والأيام البيض (أي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر)، إلا أنه كان يصوم في شهر شعبان قبل رمضان أيامًا إضافية غير تلك الأيام المذكورة. كان هذا بمثابة استعداده لاستقبال رمضان.
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ r فِي الشَّهْرِ مِنْ السَّنَةِ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ. (صحيح مسلم، كتاب الصيام)
وكذلك قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ r اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ. (صحيح مسلم، كتاب الصيام) أيْ أنه كان يصوم شهر رمضان فقط كاملًا لأنه فرض، وفي باقي الأشهر كان يصوم بعض الأيام تطوعًا، لكنه كان يكثر من صيام النافلة في شهر شعبان، الذي يسبق رمضان. بل إن السيدة عائشة رضي الله عنها روت في سنن الترمذي أنه r "كَانَ يَصُومُهُ إِلَّا قَلِيلًا"، أي أنه كان يصوم معظم شهر شعبان ما عدا أيام قليلة منه. (سنن الترمذي، كتاب الصوم عن رسول الله)
كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقضي ما فاتها من صيام رمضان في شهر شعبان التالي. كما يتضح ذلك من الرواية الواردة في صحيح البخاري حيث قالت: "كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ." (صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب متى يقضى قضاء الصيام)
عدم صيام يوم أو يومين قبل رمضان
مع أن صيام شهر شعبان استعدادًا لاستقبال رمضان هو أمر مسنون ومستحب، إلا أنه ينبغي مراعاة أن لهذا الشهر المبارك، أي رمضان، مكانة عظيمة تستوجب التمييز بينه وبين ما قبله. ولهذا، من غير المناسب صيام اليوم الأخير من شعبان حتى لا يختفي الفارق بين انتهاء شعبان وبداية رمضان.
ولهذا السبب، نهى النبي r عن صيام اليومين الأخيرين من شعبان، أي يومي 29 و30 شعبان. فقد ورد في صحيح البخاري:
عَنْ النَّبِيِّ r قَالَ: "لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ. (صحيح البخاري، كتاب الصوم)
أي أن النبي r أوصى بأن لا يصوم أحدكم يومًا أو يومين قبل رمضان، إلا في حالة واحدة. مثلًا، إذا كان شخص يصوم كل يوم خميس بانتظام، وصادف أن يكون آخر يوم من شعبان يوم خميس، فله أن يصوم. وكذلك، إذا كان يصوم كل يوم اثنين، وصادف أن يكون اليوم الأخير من شعبان يوم اثنين، فلا بأس بصيامه. ولكن إذا لم يكن لدى الشخص عادة الصيام في هذه الأيام، فلا يجوز له أن يصوم في اليوم الأخير من شعبان، حتى يكون هناك وضوح في بداية رمضان. ويسمى هذا اليوم يوم الشك.
كيف نكرم هذا الضيف؟
عندما يأتي ضيف عزيز ومحبوب إلى المنزل، كيف يكرمه جميع أفراد الأسرة وينشغلون في خدمته وضيافته، ويراعون احتياجاته ويقدمون راحته على راحتهم. وبالمثل، عندما يأتي رمضان، نعلم من سيرة النبي r أنه كان يشد المئزر ويزيد في العبادات والصدقات والخيرات وتلاوة القرآن الكريم أكثر من الأيام العادية، كما هو ثابت في الأحاديث.
قال ابن عباس t: كَانَ رَسُولُ اللهِ r أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللهِ r أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. (صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي)
ثم كان أداء التهجد من عادته r التي كان يواظب عليها في رمضان أيضا ولكنه كان يطيل القيام في رمضان أكثر من أي وقت آخر، كما ورد في صحيح البخاري: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللهِ r فِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا. (صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح)
هذا ما كان النبي r ينصح به صحابته أيضًا، وهو أن يصوموا النهار مستوفين شروطه، مع المحافظة على الصلاة، والاجتناب عن كل قول أو فعل سيئ، وألا ينطقوا بأي كلام فاحش أو يرتكبوا أي معصية. وحتى إذا أساء إليهم أحد بالكلام، فلا يردوا عليه، بل يعرضوا عنه قائلين: "إني صائم". أما في الليل، فكان يحثهم على القيام لعبادة ربهم، والتضرع إليه طالبين عفوه ومغفرته. فهاتان الخصلتان، أي الصيام في النهار والقيام في الليل، هما وسيلة لمغفرة الذنوب. قلقد ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. (صحيح البخاري، كتاب الصوم)
وكذلك روى أبو هريرة t أنه قَالَ رَسُولُ اللهِ r: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. (سنن الترمذي، كتاب الصوم عن رسول الله)
لا مغفرة لبغيض حقود
من شروط نيل المغفرة والرحمة أن يتجنب الإنسان الشرك، والشرط الثاني أن لا يحمل في قلبه حقدًا تجاه أي شخص آخر. وإذا كان يحمل في قلبه بغضًا أو عداوةً تجاه أحد، فعليه أن يزيل ذلك ويطهِّر قلبه ويصالحه. عندها فقط يستحق مغفرة الله. وإلا فالله لا يحتاج إلى صيام أحد أو جوعه وعطشه.
وفي ذكر بعض مواقع المغفرة، قال النبي r: يُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. (صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب) أيْ أنه في بعض الأيام عندما تُعرض الأعمال على الله تعالى، يغفر الله جميع ذنوب من لا يشرك به شيئًا، إلا من يحمل في قلبه حقدًا تجاه أخيه. فمثل هذا الشخص تُؤجل مغفرته ويُمهل حتى يطهّر قلبه ويصالح أخاه.
وفي رمضان أيضًا، يغفر الله تعالى للصائم، ولكن هل يمكن لمن يحمل في قلبه حقدًا وشحناء تجاه الآخرين أن يرجو المغفرة، في حين أن ذنوب الحاقد لا تُغفر حتى في الأيام العادية؟ لذا، علينا أن نطهر قلوبنا من الضغائن لننال مغفرة الله في رمضان.
علينا ألا نغفل عن إكرام الضيف
عندما يأتي الضيف إليكم، فإن الإنسان بطبيعته يعتني به من كل النواحي في البداية، ولكن بعد بضعة أيام لا يبقى ذلك الحماس والاستعداد في الضيافة كما كان في البداية، ويكون هناك احتمال قوي أن يقع الإنسان في الغفلة في إكرام ضيفه. ولكن النبي r أخبرنا أن رمضان ضيف ينبغي أن لا نغفل عن إكرامه أبدًا، بل كان نموذجه r أنه كان يزداد اهتمامًا به في الأيام الأخيرة ويؤدي حقوقه أكثر من ذي قبل. وقد ورد في الحديث: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ r إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ. (صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح)
كما ورد في روايات أخرى أنه r كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان منفصلًا تمامًا عن أهله، حيث كان يشغل نفسه كليًّا بالعبادة وذكرِ الله تعالى.
وكما أن الصلاة معراج المؤمن، والسجود معراج الصلاة، فإن ليلة القدر هي معراج الصيام، وقد جُعلت في هذا العشر الأخير حتى يصل المؤمن إلى معراجه من كل النواحي ويحقق المعايير العليا للإيمان.
كيف نودع الضيف؟
عندما يهمّ ضيفكم العزيز بالرحيل، يتمنى قلبكم لو تستمر صحبته معكم لفترة أطول. تقولون له: "ما هذا العجل، ابقَ معنا قليلاً". ولهذا السبب تخرجون من المنزل لتودعوه وتسيرون معه مسافة. وأحيانًا تذهبون معه إلى المحطة أو الموقف. وتظلون تلوحون له بأيديكم مودّعين حتى يغيب عن أنظاركم.
هذا هو حال ضيفنا الكريم الذي نسميه رمضان. دعونا نرى كيف كان النبي r يودّعه. كان يودع رمضان بإقامة وليمة العيد، ثم يسير معه مسافة لتوديعه من خلال صيام ستة أيام من شوال. وهذا ما علّمه لأصحابه أيضًا، فإذا أكرمتم رمضان كما يجب ثم ودّعتموه بهذه الطريقة، فإن ذلك سيكون دليلاً على ارتباطكم القلبي الدائم بهذا الضيف. فرغم أنكم ودّعتموه، فأنه في الحقيقة يسكن قلبكم دائمًا، وكأنه لم ينفصل عنكم أبدًا. وقد ورد في الحديث:
مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ. (صحيح مسلم، كتاب الصيام)
أيْ من صام رمضان ثم أتبعه بصيام ستة أيام من شوال فكأنما صام السنة كلها. أي أنه لن ينفصل روحيًّا عن الصيام أبدًا، وسيظل مرتبطًا به قلبيًّا، ولهذا السبب سيستحق ثوابه وأجره طوال العام.
حبيب غاب عن عيني وجسمي وعن قلبي حبيبي لا يغيب
اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا من عتقائه، وتقبل منا صيامه وقيامه، واغفر لنا ذنوبنا، آمين.
زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.