لا تزال قضية نبوة المسيح الموعود عليه السلام عقبة أمام إيمان الكثيرين من الفضلاء به، سواء من هم من ذوي الحواس الروحانية ممن استشعروا في كلام حضرته صدق الصلحاء و صفاء الأولياء، أو أولئك العقلانيون الذين وجدوا في تفاسير حضرته و عقائد الجماعة مخرجا من ضيق التفاسير التقليدية و مفرا من الدموية و الخرافة التي تعج بها التخمة الفقهية و المشيخية و سدا منيعا أمام هجمات خصوم الإسلام.
لكن الحقيقة أن قضية النبوة من أبسط القضايا التي لا يتطلب فهمها بضع ثوان إن نحن تخلصنا من رواسب الأفهام الموروثة و لذنا بالقرآن الكريم دون غيره. و لا أخفيكم أن مسألة نبوة المسيح الموعود عليه السلام كانت آخر ما استشكل علي فهمه، بل أعتبر أنه لو لم يعلن نبوته لما آمنت به و لا همني أمره، فلا حاجة للأمة بمفكر جديد أو شيخ فقيه أو عالم مفوه ! إنما تحتاج الأمة نبيا يوحى له متصلا بالله تعالى يؤيده بجنده من الملائكة و المؤمنين و يعده بالتأييد حتى النصر.
و هنا وددت أن أشير إلى أن إشكال النبوة هو في الحقيقة نابع عند البعض من عقيدة انقطاع الوحي في أمة الرسول صلى الله عليه وسلم التي صارت "معلوما من الدين بالضرورة" عند المسلمين .. و لهذا لا بد لهؤلاء من أجل فهم حقيقة نبوة المسيح الموعود عليه السلام من إثبات استمرار الوحي من خلال كتاب الله عز و جل.
- فأولا : نقرأ في فاتحة الكتاب : "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم .."
و في هذا تعليم قرآني عظيم للمسلمين بأن يدعو الله في كل فاتحة بالهداية إلى صراط الذين أنعم الله عليهم. وهؤلاء ليسوا إلا أولئك المحظوظين ممن فتحت لهم سماء الوحي و البركات حيث يقول الله تعالى في تعريفهم : "وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا". و في موضع آخر : "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا"
- ثانيا : اعتبر الله تعالى اصطفاء رجل و بعثته بين الناس فضلا منه و رحمة و أصر على أن هذا الفضل يؤتيه من يشاء لا دخل للبشر في اختياره، و ذلك في قوله عز و جل :
"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"
و في هذا وعد ببعثة رجل في الآخرين على خطى المبعوث في الأميين رحمة للعالمين. و الأهم من هذا أنه تعالى ختم الآية بقوله "والله ذو الفضل العظيم" و لا شك أن الفضل العظيم فضل غير مجذوذ و غير منقطع وإلا ما كان عظيما.
- ثالثا : استعمل الله تعالى الفعل المضارع في حديثه عن الإصطفاء قائلا : "اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" .. و في هذا دلالة على أن فعل الإصطفاء فعل مستمر في الزمان.
- رابعا :جعل الله تعالى الوحي و الكلام صفتين دالتين على ألوهيته، و علم أنبياءه أن يحاججوا المشركين بهذا الدليل، فالإله الذي لا ينطق لا يستحق الألوهية و لا العبادة إنما هو صنم ميت. و هذا ما يستشف من قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: "أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا" .. وبهذا احتج سيدنا إبراهيم عليه السلام على أصنام قومه قائلا : "قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ" ..
- خامسا : حتى إن أردنا التسليم بأن الوحي مرادف النبوة بنثبت انقطاعه بانقطاع النبوة، فهذا لا يستقيم بحال، فقد أوحى الله تعالى إلى نساء بني إسرائيل ورجالهم حيث أوحى إلى أم موسى وأوحى إلى آل عمران ومريم الصديقة كما أوحى إلى الحواريين و لم يكن هؤلاء أنبياء. فكيف يحرم أتباع المصطفى العدنان مما أنعم الله به على أتباع الأمم السابقة من فضل و رحمة !
- سادسا : وضح سبحانه و تعالى بأن نظام الكون كله يسير بوحي الله و ما من حركة أو سكنة إلا و تتم بأمره و وحيه عن طريق الملائكة. يقول الله تعالى : "فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ".
- سابعا: لا توجد ولا آية في القرآن تلمح بانقطاع الوحي، و لا بانقطاع النبوة، ومعلوم عن البلغاء أن السكوت في معرض الحاجة إلى بيان بيان.
يتضح مما سلف بأن الوحي عملية مستمرة في الخلق عموما ومنهم بنو آدم وهذا ما نجده في فهم كثيرين من أولياء الإسلام و المتصوفة من أمثال الشيخ محيي الدين بن عربي و الإمام الرازي و السيوطي و الجيلاني و غيرهم كثير.
فالذي يتعذر عليه فهم نبوة المسيح الموعود عليه السلام من منطلق إيمانه بانقطاع الوحي، فليعلم بأنه مخطئ في تصوره، لأنه كما أثبتنا فالوحي والإلهام مستمر ولم ولن ينقطع إلى الأبد. وعليه فإنه ليس من الغريب وليس مما هو مناقض للشريعة الإسلامية بعث مسيح موعود كنبي آخر الزمان، وفق ما أنبأ به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. غير أنه لا بد من التنويه إلى أن الوحي والإلهام ليس هو بالضرورة النبوة بحد ذاتها ، وليس كل من تلقى الوحي والإلهام يصبح نبيا؛ بل لا بد للنبوة أن يكون الوحي والإلهام فيها كثيفا غزيرا وصافيا. وعليه فيمكن اعتبار استمرار الوحي من إرهاصات وعلامات النبوة وليس النبوة بحد ذاتها.
كما أنه لا غرابة في هذه النبوة التي حظي بها المسيح الموعود عليه السلام، فقد أقر بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه، وذلك في ذكره مسيح آخر الزمان في حديث صحيح مسلم التالي، ووصفه له بأنه نبي الله أربع مرات ويوحى له، حيث جاء:
"فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمْ الْيَوْمَ فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ" [صحيح مسلم (14/ 167)]
و المطلع على كلام المسيح الموعود عليه السلام يجد من دون أدنى تكلف بأن كلام حضرته عن وحيه و نبوته لا يختلف كثيرا عن كلام الأولياء المعروفين، و أن حضرته لم يقصد بنبوته إلا كثرة الرؤى و الكشوفات و الوحي و لم يدع قط أن له كتابا موحى به من عند الله أو أنه أتى بشريعة جديدة أو دين جديد ! فهذا ليس إلا من افتراءات الأغيار أو السفهاء محدودي الفهم بأسرار الله مع خلقه !
فنبوة المسيح الموعود عليه السلام إنما هي نبوة وحي و مكالمة و مخاطبة لا تشريع جديد فيها.و ما أحوج الأمة اليوم للإطلاع على كنوز المسيح الموعود عليه السلام الروحانية التي ليست إلا ظلالا لوحي الله و فضله و رحمته و كرمه.
إلياس هميش
9 فبراير 2023
زاوية المقالات والمدونة والردود الفردية هي منصة لعرض مقالات المساهمين. من خلالها يسعى الكاتب قدر استطاعته للتوافق مع فكر الجماعة الإسلامية الأحمدية والتعبير عنها بناء على ما يُوفّق به من البحث والتمحيص، كما تسعى إدارة الموقع للتأكد من ذلك؛ إلا أن أي خطأ قد يصدر من الكاتب فهو على مسؤولية الكاتب الشخصية ولا تتحمل الجماعة الإسلامية الأحمدية أو إدارة الموقع أي مسؤولية تجاهه.