وقد وصفه المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنه يضع الحرب أي يوقف الحروب الدينية ويقر الأمن والاستقرار ولذا فلا بد لي من أن أعرج بعض الشيء على مقتطفات وحوادث من سيرته الطاهرة والتي تظهر لنا مدى حبه لله عز وجل بأقوى وأوضح صوره.
كان سيدنا أحمد عليه السلام منذ حداثة سنه شغوفا بدين الله، مكبّا على القراءة ودراسة القرآن والحديث والكتب الدينية. لم يجد في قلبه أية ميول لاكتساب منصب دنيوي أو الحصول على كسب مادي، بل كان يُفضل العزلة والتزام المسجد، ليقضي أوقاته في ذكر الله وتدبر آيات القرآن الكريم.
إن حب الانزواء والانعزال عن الناس، هو القاسم المشترك في حياة جميع الأنبياء قبل التشرّف بالنبوة، لأنهم في تلك الفترة يشعرون بقوة تجذبهم إليها وتفصلهم عن الدنيا، قوة يشعرون في وجودها بالأمن والاطمئنان، وتتنامَى في قلوبهم أحاسيس الحبور والسرور، حتى إن كل لذة أخرى من لذائذ الدنيا تتلاشى إزاءها، وكل هوى من أهواء النفس يتضاءل أمامها حتى يمّحي تماما، ولا يعمر قلوبهم بعدها سوى محبة الله، وابتغاء قربه، ورجاء نوال وصاله وحبه.
حين بلغ "غلام أحمد" مبلغ الشباب، كان يرى أقرانه من أفراد العائلة يحتلون مناصب عالية، وكان أخوه الأكبر يشغل وظيفة حكومية مرموقة، كما كان لوالده حظوة لدى أولي الأمر، وكل هذه الأمور قد تغري الابن الأصغر على المنافسة، أو التقليد على الأقل. وقد حدث أن أرسل إليه والده أحد أصدقائه، يُبلغه أنه يتمتع بحظوة خاصة لدى الحاكم صاحب السُلطة، وأنه يستطيع أن يظفر له بوظيفة محترمة. ولكن الشاب الذي اعتمر قلبه بحب الله، ونذر نفسه لعبادته والتبتل إليه، لم يعد في قلبه مكان لحب الدنيا وأطايبها، فرد على حامل الرسالة قائلا: "إنني ممتن جدا لعاطفة والدي الأبوية وشفقته عليّ، ولكن قولوا لوالدي إنني قد توظفت عند من أحببت خدمته، فأريحوني من الوظائف الدنيوية". ورغم أن والده قد نجح في تشغيله لمتابعة بعض القضايا الخاصة به، واضطر هو للموافقة طاعة لله بإرضاء والده، إلاّ أن قلبه ظل دائما متعلقا بحب الله تعالى الذي ملأ كل ذرة من ذرات وجدانه.
لقد كان يشعر أنه لم يعد له وجود في هذه الدنيا بل كأنه قد رحل منها، ولم يبق منه سوى قلب ينبض بحب الله، ولسان يلهج بذكر الله، وفؤاد يذوب بحمد الله، ونفس تستنير بنور الله، وروح تحلّق برضَى الله، ووجدان يسعد بقرب الله. إن كل حرف من هذه الكلمات الصادقة ليشهد أنها خرجت من قلبٍ عامرٍ بالإيمان، وتدفقت من صدر يفيض بحب الله المنان، ونبعت من فؤاد يشع ويتوهج بنور الله خالق الأكوان. إن الأدباء والفصحاء والكُتّاب حينما يكتبون عن موضوع ما.. قد يرى المرء في كتاباتهم ما يشوبها من التصنع في اختيار اللفظ وسرد الكلمات، وأما سيدنا أحمد عليه السلام ( فكان أسلوبه رقيقا، كالغدير الذي ينساب من نبع دفاق، وكوثر رقراق، ينبض بالحب والهوى، للمحبوب الأعظم تبارك وتعالى. ولذلك فإنه لما صاغ حبه ووداده أبياتا من الشعر، كانت أبياته تنفذ إلى أعماق القلب، وتصل إلى أغوار النفس، محركة فيها أحاسيس المودة ومشاعر المحبة لله تعالى. ومن بعض ما صاغه شعرا اقتطف هذه الباقة الجميلة، حيث يقول عليه السلام:
عِلْمِي مِنَ الرَّحْمَنِ ذِي الآلاَءِ
بِاللهِ حُزْتُ الْفَضْلَ لاَ بِدَهَاءِ
كَيْفَ الْوُصُولُ إِلَى مَدَارِجِ شُكْرِه
نُثْني عَلَيْهِ وَلَيْسَ حـَوْلُ ثَنَاءِ
ُبشْرَى لَنَا إِنَّا وَجَدْنَا مُؤْنِساً
رَبًّا رَحِيمًا كَاشِـفَ الْغَمَّاءِ
نَفْسِي نَأَتْ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ مُظْلِمٌ
فَأَنَخْتُ عِنْدَ مُنَوِّرِي وَجَنَائيِ
غَلَبَتْ عَلَى نَفْسِي مَحَبَّةُ وَجْهِهِ
حَتَّى رَمَيْتُ النَّفْسَ بالإِلْغَاءِ
لَمَّا رَأَيْتُ النَّفْسَ سَدَّتْ مُهْجَتيِ
أَلْقَيْتُهَا كَالْمَيْتِ فيِ الْبَيْدَاءِ
اللهُ كَهْفُ الأَرْضِ وَالْخَضْرَاءِ
رَبٌّ رَحِيمٌ مَّلْجَأُ الأَشْـيَاءِ
هَذَا هُوَ الْحِبُّ الَّذِي آثَرْتُهُ
رَبُّ الْوَرَى عَيْنُ الْهُدَى مَوْلاَئيِ